جاء في الحكمة "إذا أعجبك الكلام فاصمت , واذا أعجبك السكوت فتكلم " |
وَلَا تَلۡبِسُواْ ٱلۡحَقَّ بِٱلۡبَٰطِلِ وَتَكۡتُمُواْ ٱلۡحَقَّ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ﴿٤٢﴾
وتستمر الآيات الكريمة في مخاطبة القوم الذين يزعمون الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر ـ ومن ورائهم كل زاعم وداعٍ ـ يأمرهم في نبرةٍ صارمة ٍ أن ينتهوا عن الأفك العظيم والضلال المبين الذي ارتكسوا فيه ورتعوا في حمئته , طوال القرون الماضية , إنه التلبيس ... وما ادراك ما التلبيس ؟! إنه فعل إبليس اللعين , ومن ورائه علماء البلاط والسلاطين , الذين يأكلون الدنيا بالدين , ويأكلون أموال الناس بالباطل , ويصدون عن سبيل الله تبارك وتعالى , ويبغونها عوجاً, ولكن لماذا تلبيس الباطل بثوب الحق؟
لأن الباطل لا قوام له بنفسه , ولا تقبله النفوس محضاً خالصاً , فهو معاكس لفطرة الكون والناس ,مناقض للعقل الصحيح , ولكنه موافق للأهواء والشهوات البهيمية , فالباطل لا يرتع إلا في ساحة الأهواء والغواية التي تسكنها الشياطين , وكل غاوٍ أفاكٍ أثيم , وكل من إتجهت إرادته للدنيا طلباً لها وحرصاً عليها بل وتكالب وتصارع من أجلها , فإن الشياطين تستولي عليه , وتأخذهم لهذه الساحات , ليرتع في الباطل الملبس والمزخرف مع الذين سبقوه , ويخوض معهم في الضلال المبين , وهؤلاء هم المتصارعون على الدنيا بأسبابها حلالاً أو حراماً أما الذين يأكلون الدنيا بالدين , ويزينون للناس أهوائهم , ويزينون للحكام فسوقهم عن منهج الله تبارك وتعالى , وظلمهم للناس , فهؤلاء ليسوا ممن تستولي عليهم الشياطين وتحضرهم إلى ساحات الغواية , ... بل هم ممن تطيعهم الشياطين وتعمل بأمرهم , فهم القادة الذين تبوء المكانة والصدارة في ساحات التزيين والتلبيس للباطل ببعض الحق !! ومن خلال النظر السريع في كتاب الله تبارك وتعالى نجد أن هؤلاء الصنف من الناس لهم أشد العذاب والإهانة والإبعاد , وذلك لأنهم سبب مؤثر وبالغ في ضلال الأمم والشعوب والأتباع , وهل أفسد يني إسرائيل وأضلهم إلا الحكام والملوك من ناحية والعلماء من ناحية أخرى والجنود المجندة للطاغوت, للصنفين الحكام والعلماء , فالجنود للحكام الفاسقون , والأتباع العميان للعلماء الغاوون , والرسم القرآني لكلمة الباطل بغير الألف الحنجرية , لأنه من المسائل المعنوية , وليست له حقيقة مادية محسوسة .
وكتمان الحق كله أو بعضه, كذلك هو من أكبر الكبائر , وأشنع الذنوب المتعدية آثارها على الأفراد والشعوب , وهو المقتضى الطبيعي لإظهار الباطل ونشره بين الناس , لأنه يكون على حساب الحق حقيقةً ووجوداً , فكل باطل مزين وملبس بشبه الحق وهيئته يقتضي حتماً إخفاء الحق وكتمانه لأنه لا يجتمع مع الباطل في نفس المكان والزمان , لأن الحق ـ ما دام خالصاً ـ إذا جاء في كامل صورته وهيئته , فإن الباطل يفر مولياً دبره خاسئاً حسيراً زاهقاً , وما رتع الباطل وانتفش واستطال إلا في غياب الحق وكتمانه .
وختام الآية دالٌ على أن المعنيون بهذا الخطاب بالأساس هم العلماء الذين شرفهم الله تبارك وتعالى بالعلم ثم هم يرتكسون في هذه الحمئة الوبيلة ويخلدون للأرض وللحياة الدنيا فلهم شر مثل في كتاب الله تبارك وتعالى , فهم أمثال الكلاب العاوية !
۞أَتَأۡمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلۡبِرِّ وَتَنسَوۡنَ أَنفُسَكُمۡ وَأَنتُمۡ تَتۡلُونَ ٱلۡكِتَٰبَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ ٤٤وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ 45
ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ٤٦
مازال الخطاب في هذه الآية الكريمة للذين آتاهم الله تعالى العلم والكتاب ـ وللناس من ورائهم ـ والاستفهام للتعجيب من أمرهم , إذ يأمرون غيرهم بالبر ثم ينسون أنفسهم ولا يأتمرون بما يأمرون به الناس , إنه الفصام النكد بين القول والنصح والوعظ من ناحية , والعمل والتخلق بما يأمرون به من ناحية آخرى , والبر اسم جامع لكل خير ظاهرٍ وباطن , لذلك الدين كله في البر , والبر كله في الدين . وجهان لعملة واحدة , والآية الكريمة تكشف عن داء ومرض خبيث بين الناس عامتهم وخاصتهم , وخاصةً الموسومون برسم العلم ومن حملته ,الذين احترفوا مهنة الوعظ والإرشاد وهم عارون مما يدعون إليه غيرهم , ولا يلزمون أنفسهم به منهجاً عملياً , إن الخطب والمواعظ على رؤوس الناس تلقى هوىً عميقاً في النفوس , وتستلذ بذلك لذة غامرة ً, تنسيها نفسها وتجعلها كالشمعة تحرق نفسها لتضيئ لآخرين , وجسر يعبر عليه الناس ثم ينكسر ويهوي بعد حين ! ... إن النفس البشرية مفعمة بالأهواء والطغيان, تأمر بالسوء وهي متوشحة بوشاح الدين والصلاح , وتخلد للدنيا وملذاتها وهى تتمنى على الله تبارك وتعالى ,
ولذلك جاء في الحكمة "إذا أعجبك الكلام فاصمت , واذا أعجبك السكوت فتكلم " وهذا يدل على أن مخالفة النفس نجاةٌ , ودالٌ على سلامة العقل , و القرآن الكريم يحمل على أمثال هؤلاء حملةً ضارية في كثير من آياته , لأنهم يأمرون للبر بألسنتهم ويصدون عن سبيل الله تبارك وتعالى بأعمالهم وحالهم , فهم في حقيقة حالهم لا دين عندهم ولا تقوى , ولكن يأمرون بالبر لتحقيق أغراض نفسية وشهوانية وطلباً للدنيا وحطامها من غير أبوابها , ويأكلون أموال الناس بالباطل مقابل هذه المواعظ والخطب البليغة المؤثرة ! ...والآية الكريمة تصكهم صكاً في ختامها , وتقرعهم على رؤوسهم ونواصيهم الفارغة من التعقل , أفلا تعقلون !
وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ 45
وفى هذه الآية الكريمة توجيه للمنهج العملي القويم , الذي يهذب النفس ويزكيها ويرتقي بالروح ويصلها بخالقها العظيم سبحانه , وقوام هذه المنهج في الصلة بالله تعالى ودوام مراقبته في السر والعلانية , والصلاة ذات الخشوع معراج روحي للمؤمنين ,وطهارة للوجدان والضمير , والمداومة عليها في أوقاتها المعلومة يجعلها روحاً وكياناً نورانياً قائماً بذاته تأمر صاحبها بالمعروف وتنهاه عن المنكر , والصلاة ذات الخشوع لله تبارك وتعالى والتي ينتج عنها كياناً روحياً نورانياً متعلقة بصاحبها وملازمة له, تنير له السبيل القويم , وتأمره بالخُلق الكريم , تحتاج للصبر الجميل في المداومة عليها والخشوع فيها , فالصبر خُلق معين على كل غاية , وتحصيل المكرمات والفضائل , وتحمل مصائب الحياة الدنيا وبلوائها , .. فكأنه قيل وكيف السبيل إلي تحصيل الغايات المرجوة من الطهر والفضيلة والعمل الصالح المقبول وردع الهوى المستطير في النفس وإلجام الشهوات المزينة بالوهم والتضليل ؟ فتأتي الآية الكريمة تبين السبيل وترشد لأسباب النجاة والفلاح وتحقيق مرضاة الله تبارك وتعالى ,وهذه النصيحة وهذا الإرشاد الذي تقدمه الآية الكريمة يبدو أمرا في غاية الصعوبة والمشقة على الذين سيطرة عليهم أهوائهم , واستعبدتهم شهواتهم وأغراضهم العاجلة فهم مشغولون بتحصيلها وينفقون العمر في تحصيلها , حتى الصلاة أصبحت عندهم مجرد حركات وتسبيحات وقراءة لا حضور فيها للقلب ولا خشوع , لذلك هذه الصلاة بهذه الصورة المزرية لا ينتج عنها ومنها روحاً وكياناً نورانيا , لأنها صلاة ميتةً بلا روح , وإنما ينتج عنها كياناً شبحياً مشوهاً مظلماً, يظل جاثما على صدروهم, فتزداد ضيقاً إلى ضيقها, وحرجاً إلى حرجها! ..... لأنهم لا يقومون للصلاة إلا كسالى ولا يذكرون الله تبارك وتعالى فيها إلا قليلاً, إضافةً إلى جزعهم عند حلول المصائب وخوارهم النفسي تجاه مصاعب الحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق