هل كلمة الظن ترد في كتاب الله تعالى على معنى اليقين؟ |
ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ ٤٦
الظن يرد في لغة العرب على محمل الشك والريب والتهمة , ومجمل ورود الكلمة في كتاب الله تبارك وتعالى يَرد على محمل الإعتقاد المحمول على دعامتي الرجاء والتمني, القائم على مقدمات صحيحة أو باطلة ,الإعتقاد الصحيح المبني على مقدمات صحيحة, أو الإعتقاد الباطل الخاطئ تبعاً لمقدماته الخاطئة وفي هذه الحالة فإن الأنسان يعتقد أيضاً أنه على صواب ,ففي الحالة الأولى يقين أشبه بالظن من حيث الرجاء والتمني والخوف الذي يحمله , وفى الحالة الثانية ظن وتخَرص أشبه باليقين من حيث كونه إعتقاداً مبني على مقدمات ولكنها فاسدة , ولكن القرآن الكريم يحدثنا عن حقائق مطلقة لا تخضع لتصوراتنا وأوهمنا , ولا تخضع لقوانين الرؤية والتصور في عالم المادة والأسباب , ويقدم لنا حقائق المسائل والحادثات من حيث هي في حقيقتها المطلقة في عالمها , أما في عالمنا المادي المحسوس فإننا نتعامل مع أسمائها وصورها بالمنطق المادي البحت , ولا نستطيع النفاذ إلى عمق الحقائق إلا بتزكية أنفسنا والإرتقاء بمدركاتها وحواسها النفسية , ولا يمكننا ذلك إلا بطهارة الباطن و بالعمل الصالح, والتفقه والتدبر لكتاب الله تبارك وتعالى ,كمصدر وحيد وكافي وشامل للحقائق المطلقة من حيث هي في عالمها .
والقرآن الكريم يصف ويعبر عن هذه الحقائق المطلقة بالكلمة ورسمها وصوتها ورنينها, وبوضع الكلمة نفسها في سياق الآية الكريمة, وسياق الآية الكريمة في نسيج السورة القرآنية وفي مجموع ورود الكلمة في سياق الآيات الأخرى ؟
و الآية الكريمة تصف لنا الخاشعين الذين استعانوا بالصبر والصلاة التامة بأنهم " ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ " وهذا الظن في الآية الكريمة ينطبق عليه التعريف الأول للظن في القرآن الكريم , وهو الإعتقاد المبني على مقدمات صحيحة ويحمله الرجاء والخوف كدعامتين وورود الآية الكريمة بهذا السياق يدل على أن المقصود باللقاء والرجوع إنما هو لقاء الجزاء الأوفى ووعد المغفرة , ورجوعهم إليه سبحانه وتعالى رجوع الغريب إلى داره والشريد إلى مأواه , كما قيل في الأثر "القيامة عرس المتقين " " ولا راحة للمؤمن دون لقاء الله تبارك وتعالى لهذا المعنى جاءت الآية الكريمة بهذا السياق ولم تأت في سياق يوقنون كما وردت في الآية الكريمة " وَٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡأٓخِرَةِ هُمۡ يُوقِنُونَ " ٤ في أول السورة الكريمة , لأن الآية الكريمة في أول السورة الكريمة تصف الإيمان باليوم الآخر وهذا لابد فيه من اليقين الجازم الذي لا شك فيه , وإلا فلا إيمان ولا إسلام أصلاً , أما الآية الكريمة التي نحن في رحابها الآن فهي تصف إيمان المؤمنين بالوعد والجزاء الأوفى للعمل الصالح الذي وعدهم به رب العالمين تبارك وتعالى , فهم على يقين بالوعد وصدق الواعد جل جلاله وتباركت أسمائه , ولكنهم من ناحية آخرى على غير ثقة بإيمانهم و بأعمالهم أن تقبل عند الله تبارك وتعالى وتنجيهم من الوعيد وتكون سبباً في تحقق الوعد الكريم لذلك نرى أن الآية الكريمة جاءت بهذا السياق لتدل على هذه المعنى , فهو إعتقاد قائم على مقدمات صحيحة وهو وعد الله تبارك وتعالى للمؤمنين بالمغفرة والنعيم , وهذا يقين لا شك فيه , وفي نفس الوقت هم بين الرجاء أن يكونوا أهلاً لذلك الوعد , والخوف من عدم قبول أعمالهم وقُرباتهم وبالتالي يلحقهم الوعيد , و الله تبارك وتعالى أعلى وأعلم , واستغفره سبحانه وتعالى وأتوب إليه .
يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتِيَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ وَأَنِّي فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ ٤٧ وَٱتَّقُواْ يَوۡمٗا لَّا تَجۡزِي نَفۡسٌ عَن نَّفۡسٖ شَيۡٔٗا وَلَا يُقۡبَلُ مِنۡهَا شَفَٰعَةٞ وَلَا يُؤۡخَذُ مِنۡهَا عَدۡلٞ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ ٤٨
بعد النداء الأول الذي سبق معنا , والذي كان دعوة إلى الإيمان بالمنهج الأخير المنزل من السماء على خاتم الأنبياء محمد صلى الله علية وسلم وترك العناد والكفر الذي تمادوا فيه منذ تاريخهم البعيد , في أسلوب قرآني فريد يخاطبهم جماعات وفرادى وأمم وشعوب ـ ومن ورائهم ومعهم هذه الأمة المحمدية وسائر الأمم إلى يوم الدين ـ في أسلوب دعويٌ يُحتذى يجمع بين الترغيب والترهيب , والماضي والحاضر , وقد بين لنا مولانا الحق جل جلاله وتباركت أسمائه أسباب الضلال وسبل الغواية وأصحابها وأهلها ومن هم أحق بها ممن هم سبب ضلال الناس في الماضي والحاضر , ويدعو الناس عامة وخاصةً إلى التوبة والإنابة لله تبارك وتعالى .
ومعنا هذه الآية الكريمة وتحمل النداء الثاني العذب الرخيم يذكرهم بنسبهم لهذا النبي الكريم يعقوب عليه السلام, ثم يعقب النداء بموعظة بليغة لهم ولكل مؤمن بالقرآن الكريم , كأنها موعظة الوداع والنداء الأخير .... ثم كل نفس على نفسها بصيرةً ولو ألقى معاذيره !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق