بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 6 ديسمبر 2020

هل الفرقان مجرد صفة للكتاب وحسب ؟

 


هل الفرقان مجرد صفة للكتاب وحسب ؟
هل الفرقان مجرد صفة للكتاب وحسب ؟


وَإِذۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَى ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡفُرۡقَانَ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ٥٣

ولما ذهب موسى عليه السلام للقاء ربه , تتابعت عليه وعلى بني إسرائيل أنعم الله تبارك وتعالى , وآتاه المنهج الرباني المفصل , والفارق بين الحق والباطل , وليخرجهم من ظلمات الشرك والضلال الذي كانوا فيه مع القبط المصريين , والله جل جلاله وتباركت أسمائه لا يترك الناس في الحياة الدنيا حيث الامتحان والإختبار الذي خلقوا من أجله , لا يتركهم من غير منهج مفصّل وميسر لكل البشر , ليتذكروا العهد والميثاق الأول الذى واثقوه مع رب العالمين تبارك وتعالى ,ويهتدوا إلى الحق المبين والصراط المستقيم , وبهذا تمت كلمات ربنا تبارك وتعالى صدقاً وعدلاً , وتمت حجة الله تبارك وتعالى على العالمين, فلا حجة لأحد على الله تبارك وتعالى بعد هذا , وأصبحت كل نفس ٍ بما كسبت رهينة . والآية الكريمة جمعت بين الكتاب والفرقان بواو عطف بينهما وهما معرفان , وواو العطف والتعريف يقتضى عدم المثلية والمطابقة بينهما , بأن يكون الكتاب هو هو الفرقان , والفرقان هو هو الكتاب , وكذلك واو العطف والتعريف لا يتوافق مع تفسير الفرقان في الآية الكريمة بأنه مجرد صفة ً للكتاب , كما ورد في كتب التفسير ! ومما لا أشك فيه أن الكتاب يحتوي على الفرقان والميزان والحق بحذافيره والهدى والتنوير, ولكن الفرقان في الآية الكريمة جاء معطوفاً على الكتاب ومعرفاً ؟! وهذا يقتضى تغايراً في الدلالة , وأن بينهما علاقة خصوص وعموم وشمول , لقد وجدنا في القرآن الكريم  الكتاب " التوراة " يختص بموسى عليه السلام , بينما يشترك معه أخاه هارون عليه السلام في الفرقان , قال تعالى :  " وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ وَهَٰرُونَ ٱلۡفُرۡقَانَ وَضِيَآءٗ وَذِكۡرٗا لِّلۡمُتَّقِينَ ٤٨" سورة الأنبياء  , ففي هذه الآية الكريمة لا يمكننا أن نقول أن الفرقان هو هو نفس الكتاب , لأن الكتاب أختص به موسى عليه السلام ,  كما وجدنا الفرقان ينفصل عن الكتاب في الذكر وفي التنزيل قال تعالى :" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَٰلَمِينَ نَذِيرًا" 1 سورة الفرقان , وفي هذه الآية الكريمة ورد ذكر الفرقان مستقلاً بصيغة التنزيل , وهذا يقتضى أن الفرقان هنا هو الكتاب الذي نزل على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم  وهو القرآن الكريم , ولكن ... لماذا ذُ كر وسمى بالفرقان هنا في الآية الكريمة  ولم يذكر بالكتاب أو القرآن الكريم كما في كثير من الآيات الكريمة ؟ ألا يقتضي ذلك زيادة في المعنى ؟

وقد ذكر الفرقان أيضا مستقلاً في الإنزال مقترناً بنزول الكتب السماوية الثلاث القرآن الكريم والتوراة والإنجيل, قال الله تبارك وتعالى :    

" نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَىٰةَ وَالْإِنجِيلَ  3  مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِءَايَٰتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ" 4 سورة آل عمران , ومما لا شك فيه أن القرآن الكريم والتوراة والإنجيل كلها فرقاناً يفرق بين الحق والباطل , ولكن إستقلال الفرقان في الآية الكريمة بالنزول بعد إنزال الكتب السماوية الثلاث , يعني معنىً زائداً وتابعاً للكتاب , لأن الفرقان يأتي بعد الكتاب في الذكر والتنزيل , ... وبعد هذه الرحلة القصيرة في آيات القرآن الكريم حول العلاقة بين الكتاب والفرقان  , أقول مستعيناً  بمولاي الحق المبين ورب العالمين جل جلاله وتباركت أسمائه , وهو حسبي ونعم الوكيل , الذي يبدو لي والله تعالى اعلم أن الكتب السماوية المنزلة من عند الله تبارك وتعالى , وخصوصاً القرآن الكريم , ليست حروف وكلمات جافة مرصوصة بين دفتي الكتاب , وإن كانت كذلك في ظاهرها , ولكن لها روحاً عظيمة مهيمنة على سائر الأرواح , ينبثق منها نوراً نافذا ً ثاقباَ يفلق صور  الأشياء فيكشف عن حقيقتها , ويفلق الكلام فيكشف حقيقته ومعناه , روحاً قوية نافذه تفلق كل ظواهر الصور والأسماء , وكل ما يتعلق بكلمات الله تبارك وتعالى وآثارها وهيئة تمثلها بهذه الحياة الدنيا التي تخَفَى فيها حقائق الأشياء وجواهر المعاني والأفكار تحت ركام الزينة التي تتحلى بها الحياة الدنيا لتخفي حقيقتها التافهه  , وتتوارى تلك الحقائق والجواهر خلف أستار ساحات اللعب واللهو والشهوات ,التي يرتع فيها الناس ! 

إذاً كلمات الله تبارك وتعالى لها سلطان قاهر تحيط بالخلق أجمعين إحاطة علو ونفاذ وهيمنة لا يجاوزها برٌ ولا فاجر, كما أن لها فرقاناً نافذا فالقاً للصور والأسماء كاشفاً لحقائقها وجوهرها الفذ كما هي في كلمات الله تبارك وتعالى , وهذا الفرقان لخواص الخلق , كلٌ حسب درجته في سلم الولاية والقرب من الله تبارك وتعالى , فقد آتاه الله تبارك وتعالى لأنبيائه ورسله بنصيب وافر وحظ عظيم , وخصوصاً الرسل الكرام أصحاب الكتب السماوية والصحف كذلك , لأن الفرقان روحٌ متعلق بكلمات الله تبارك وتعالى وينبثق منها في أنحاء الوجود نوراً ثاقباً نافذاً يكشف معاني كلمات الله تبارك وتعالى كما هي حياتها وحركتها بيننا في الحياة الدنيا , بقدر ما تحتمله تصوراتنا وقلوبنا  , ولكنها يوم القيامة تكشف عن الحقائق المطلقة الكاملة التامة لكلمات الله تبارك وتعالى , كما هي علم الله تبارك وتعالى , وهذا هو الوعد الصادق الذي وعدنا الله تبارك وتعالى إياه يوم القيامة , أن يكشف لنا عن تأويل حقائق القرآن الكريم المطلقة كما هي في علم الله تبارك وتعالى , ولا يعلمها ولا يكشفها الله تبارك وتعالى , قال جل جلاله وتباركت أسمائه "  هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَٰبَ مِنْهُ ءَايَٰتٌ مُّحْكَمَٰتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَٰبِهَٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّٰسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَٰبِ " 7 آل عمران  , ثم يوم القيامة يأتي الوعد الحق المبين  :" هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"  53سورة الأعراف .

وهذه الروح النافذة الفالقة التي تسمى في كتاب الله تبارك وتعالى " الفرقان" تمت واكتملت بتمام كلمات الله تبارك وتعالى صدقاً وعدلاً بنزول كلمته الأخيرة  للعالمين من المكلفين من الإنس والجن " القرآن الكريم "  قال تعالى " وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ "115 سورة الأنعام , ولذلك النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم , كان له الحظ الأوفر والأتم والأكمل من هذه الروح والفرقان , فقد نزّل الله تبارك وتعالى الفرقان عليه تنزّيلا كما نزّل القرآن الكريم تنزّيلاً , وبثه في روعه  صلى الله عليه وسلم  وحياً  ولم يكن له بصورة الإيتاء كما آتاه الله تبارك وتعالى موسى وهارون عليهما السلام , قال الله تبارك وتعالى " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَٰلَمِينَ نَذِيرًا 1 سورة الفرقان  وقال تعالى "وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَٰبُ وَلَا الْإِيمَٰنُ وَلَٰكِن جَعَلْنَٰهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ" 52 سورة الشورى

وهذه الآية الكريمة من سورة الشورى تكشف لنا هذا المعنى الجليل لهذه الروح الفرقانية , وهى ضرورية ولازمة لكل رسول له كتاب من الله تبارك وتعالى يحتوي كلمات الله تبارك وتعالى , لأنها كاشفة ومبينة لحقائق المعاني المتعلقة بكلمات الله تبارك وتعالى وهيئة تصورها في الواقع  وكاشفة لكل مفردات الصور والأسماء التي تحيط بنا ـ والنفس البشرية جزء منها ـ 

فهذه الروح الفرقانية الفالقة الكاشفة التي أوحها الله تبارك وتعالى للرسول محمد صلى الله علية وسلم  ونفثها في روعه , كشفت له حقائق معانى الكتاب وجوهر الحق المشع في الوجود كله من كلمات الله تبارك وتعالى ونفوذها وفلقها لكل الأسماء والصور لتكشف عن حقيقتها كما هي في كتاب الله تبارك وتعالى , كما فلقت له الأسماء والعبارات الدالة على الإسلام والإيمان وكشفت له حقائقها كما هي في كلمات الله تبارك وتعالى  وكذلك أتباع الرسل الكرام والمقتدين بهم , المتمسكون بكتاب الله تبارك وتعالى , المؤمنون بكلمات الله تبارك وتعالى , الموقنون بتمامها وكمالها وعزتها وعلوها على كل ما سواها , واستغنائها عن كل ما سواها وافتقار كل ما سواها إليها , وكفايتها وصدقها وعدلها ونورها التام النافذ الفالق لكل الأسماء والصور كاشفاً لحقيقتها في كلمات الله تبارك وتعالى , هؤلاء لهم نصيب من هذه الروح بحسب دراجاتهم في سلم الولاية والتعلق بكلمات الله تبارك وتعالى , والتسليم المطلق لها , فيجعل الله تبارك وتعالى لهم سبباً يدنيهم من فِنائها ويضربون بخيامهم حول سورها العظيم . 

قال تعالى" يَٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّءَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ " 29 سورة الأنفال 

نسأل الله تبارك وتعالى من فضله العظيم أن يجعلنا حبلاً أو وتداً في إحدى خيامهم فيصيبنا من رذاذ صيبها ,أو وميضاً من نورها الكاشف . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟

 لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟ وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَد...

مشاركات شائعة