![]() |
والسورة الكريمة ,بعدما حملت عجلة التاريخ مسرعة ً تطوي المراحل والقرون , ثم هاهي , تبطئ سرعتها , ثم تتئد رويداً رويداً وعلى مهل عند محطة بني إسرائيل ! لقد جاءت عجلة التاريخ الموجهة مسرعة حتى زمن التنزيل والوحي , ثم استدارة لتعود مرة أخرى للزمن الماضي , فسارت قاصدة ديار وزمن بني إسرائيل , ثم توغلت في تفاصيل حياتهم , لتعرض لنا مشاهد تصوير حية , من تفاعلهم مع الوحي , وكتاب الله تعالى الذي جاء به موسى عليه الصلاة والسلام , مشاهد تعكس التفاعل الحركي الظاهري , والتفاعل النفسي الباطني , النفسية الكامنة وراء التفاعل الظاهري , وتسليط الضوء على قضية الميثاق والعهد مما يجعل قصص بني إسرائيل مرتبطة بقصة آدم عليه السلام التي كانت معنا منذ قليل من خلال السورة الكريمة
يا أبناء إسرائيل , نبي الله الكريم يعقوب عليه السلام , وهذه براعة وروعة الاستفتاح البياني في خطاب هؤلاء القوم الضالين عن أصلهم وطريقة أسلفهم المؤمنين , فلا يبهتهم ويصفعهم بيا أيها الضالون , رغم ضلالهم , ولا ياأيها الكافرون , رغم كفرهم , ولكن القرآن يخاطبهم خطاب رحيماً رخيماً بصوت عذب رقاق ,وفي نفس الوقت لا يداهن ولا يداعب فسوقهم , ولكن ينطق بالحق ويدعوهم إليه في أسلوب متصاعد الوتيرة ويدعوهم دعوة خاصة , بعد الدعوة العامة التي سبقت في السورة الكريمة " ياأيها الناس اعبدوا ربكم ....." وذلك تأليفاً لقلوبهم , التي قست من بعد ما جاءتهم البينات من ربهم !
وكل دعوة في القرآن الكريم لأهل الكتاب , ليس معناها مخصوص باليهود والنصرى حصراً , ومن يظن ذلك فهو لم يفهم بعد أساليب القرآن الدعوية , والبيانية , فهو بعيد من القرآن لا يرى إلا ظاهر الجدار , ولا يرى ما وراءه !
ونرى أن القرآن الكريم ليس فيه خصوص مطلق , وكل نص يبدو من ظاهره خصوص , فهو يحتوي عموم مطلق تحت هذا الخصوص الظاهر وفي أعماقه دلالات وإشارات وإيحاءات مطلقة عن الأشخاص والزمان والمكان , ولكن يمكننا القول أن ذلك بعض من آثار الأساليب البيانية المتنوعة في القرآن الكريم , تفصيلاً للآيات وتصريفاً للقول من زوايا مختلفة وإطارات متنوعة , إثارة للعقول , وتبصرة للقلوب , وذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد .
" يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿٤٠﴾"
يا أبناء النبي الكريم , ألا تذكرون نعمائي عليكم وعلى آباءكم من قبل , والبدء بحديث النعم له أثر بالغ على كل إنسان لم تزل فيه بقية من روح الله تعالى ومحبته سبحانه , والعهد عام وخاص , العهد العام الذي كان من عموم البشر كأنفس مجردة , والعهد الخاص الذي كان من أهل الكتاب , وأسلوب المشاكلة في القران الكريم , له أثر بالغ على النفس , ولا تطيق العبارة وصفه , والإمساك ارجى للسلامة , وحسن مآب , يدعوهم رب العالمين سبحانه وهو الغني عنهم وعن العالمين للوفاء بالعهد والميثاق الذى اخذ عليهم , فسيجدوا الله تعالى تواباً رحيماً بهم , يقيل عثراتهم , ويكشف ضرهم , ويهدي قلوبهم للحق الذي تركوه منذ زمن بعيد , بل عادوه وابغضوه ! ,,
وإلا تفعلوا فاحذروا بأسي وإنتقامي , ... وسبحان من هذا كلامه ! أسلوب يأخذ بتلبيب النفس أخذاً , ويحيط بالقلب من كل جهاته !
لين ورفق في بداية الحديث , وتذكير بالنعم , والعهود والمواثيق , والمقايضة في الوفاء وصدق الوعد , فكأنهم ما أنصتوا وما اهتموا بهذا الخطاب القدسي ـ كعادتهم الذميمة ـ فإذا بالخطاب يزمجر بهم ويصفعهم بصوت عالي جليل ,له صدىً يتردد في ساحتهم المكانية والنفسية , يخلع القلوب اللاهية , ويبهت الأسماع الساهية ! " وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ "
وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلۡتُ مُصَدِّقٗالِّمَا مَعَكُمۡ وَلَا تَكُونُوٓاْ أَوَّلَ كَافِرِۢ بِهِۦ وَلَا تَشۡتَرُواْ بَِٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗا وَإِيَّٰيَ فَٱتَّقُونِ ﴿٤١﴾
ثم نرى وتيرة الخطاب في تصاعد مملوس , يأخذهم من حضيض الفسق والعصيان , إلي أفق الطاعة والإيمان بالله تعالي وبرسوله صلى الله عليه وسلم , يأمرهم بالإيمان بهذا القرآن الكريم , حيث أنه الفرصة الأخيرة للإٌيمان , فلا كتاب بعده من السماء , ولا رسول يأتي بعد هذا النبي الكريم عليه صلوات الله تعالى وسلامه , وقد جاء القرآن الكريم بتصديق الكتب والرسالات السابقة عليه , ويبطل ما افتراه المبطلون الضالون على رسالات الله تعالى ورسله عليهم صلوات الله تعالى وتسليمه ,
جاء القران الكريم مصدقاً ومهيمناَ وحاكماً على ما سبقه , وما يأتي بعده من عصور وأزمنة وأنس ٌ وجانٌ إلى يوم القيامة , أليس هو الخطاب الأخير من الله تعالى لكل المكلفين الممتحنين إلى يوم الدين , لذلك القران الكريم جمع كل العلوم والمعارف , والهداية والرشاد , والحكمة والسداد , بشيراً ونذيراً , وسراجاً منيراً , وشفاء ورحمة للمؤمنين به , الآميّن إلى رحابه , الطآئفين بمعانيه ودلالاته .
يقول ربنا تبارك وتعالى , يا من أنتم أهل كتاب منزل من السماء , من عند الله تبارك وتعالى , آمنوا بما نزل من عند الله تبارك وتعالى على خير الأنبياء وخاتم النبيين , النبي صلى الله عليه وسلم , وقد كان أدعى بكم أن تكونوا أول المؤمنين به , المنافحين عنه ضد كل كفار عنيد , ألستم تزعمون الإيمان بالله وباليوم الآخر , وانكم خير الناس وأحبهم إلى الله تبارك وتعالى , فكيف بكم أن تكونوا أول الكافرين به ! ويلكم ...كيف تشترون الضلالة بالهدى , وتستبدلون الذى هو أدنى بالذي هو خير , و القرآن الكريم خير لكم مما سواه مما حرفتموه وزيفتموه ثم نسبتموه لله تبارك وتعالى , ولا تشتروا بكفركم بهذا القرآن الكريم ثمناً قليلاً ـ والدنيا كلها من أولها لأخرها ثمناً قليلاً ـ فإن هذا القرآن الكريم أعظم من كل حطام الدنيا الفانية , وهو حظكم من الله تبارك وتعالى , فإن أخذتموه بقوة أخذتم بالحظ الأوفر , وإن تركتموه خسرتم كل شيء , و الله تبارك وتعالى يعظكم لعلكم تذكرون , وتعلمون أنه تعالى شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره ونهياه , فَمَنّ غيُر الله تبارك وتعالى ترهبون وتجعلون له على أنفسكم ألف حساب وحساب , وختام الآية يزمجر بهم في نبرة عالية تلفح قلوبهم العاتية , وتصفع أحاسيسهم المتبلدة , وقد طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق