بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 29 نوفمبر 2020

هل الحياء صفة من صفات الله تعالى؟

 



إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَٰسِقِينَ﴿٢٦﴾ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن  بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿٢٧﴾

الحياء من شمائل الفضائل وكريم الأخلاق  , وهو من صميم الفطرة وقرين الإيمان , ومشتق من الحياة , ومؤشر صادق وصحيح للرصيد الروحي عند الإنسان , لذلك أكثر الناس حياءً هم الأنبياء والرسل , كما ورد في القرآن الكريم عن حياء النبي صلى الله عليه وسلم ( ....  إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ  ....) الآية 53 الأحزاب 

  ثم الصالحون  الأمثل فالأمثل , حتى لا يبقي منه شيئاً عند من لا رصيد روحي وإيماني عندهم وهم المشركين , والشرك نجاسة معنوية قلبية ,  وموات نفسي  , وخواء روحي  , فمن أين يأتيهم الحياء ولذلك القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قائلاً : "  الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴿٣﴾"

فهذا في حقنا نحن البشر , لأننا ناقصون وخاطئون ولنا عورات حسية ومعنوية , فالحياء لنا زينةً وستر وفضيلة  , أما بالنسبة لله جل في علاه , فتعالى ربنا وتقدس عن ذلك كله  , لذلك الحياء – بهذا المعني - ليس من صفات الله تعالى ولا من أفعاله , وأسماء الله تعالى وصفاته لا نتلقها إلا من القرآن الكريم  حصراً  , فالذات الإلاهية وصفاتها  , لا نتلقى عنها خبراً ولا وصفاً , ولا إثباتاً ونفياً إلا بهذا السند الزكي الشريف العالي , النبي صلى الله عليه وسلم  عن جبريل عليه السلام عن رب العزة ذي الجلال والإكرام , وهذه السند متنه القرآن وحمله إلينا , ليس بيننا وبين رب العزة تبارك وتعالى إلا رسولين من أفضل الرسل البشريين والملائكيين  , وتولى ربنا تبارك وتعالى بنفسه المقدسة حفظ هذا المتن الشريف العظيم  , فهو لا يأتيه الباطل من أي ناحية  , ولا ريب فيه أنه كلام رب العالمين , أنزله بعلمه وبالحق المبين , والقرآن ينفي عن رب العالمين تبارك وتعالى,  الحياء بهذا المعنى المعروف عندنا , وليس معنى ذلك أنه تعالى مادام  لا يوصف بالحياء  أنه موصوف بضدّه  تعالى ربنا عن ذلك , لأن الحياء وضده لا يليق ولا يصح في حق الله تبارك وتعالى ,   والمعنى في الآية الكريمة  , أن الله تبارك وتعالى  يصرّف ويبين – يضرب _ الأمثال _ وهى الأشباه والنظائر_  في القرآن الكريم  , بقدر حاجة الناس لذلك  , ويجعلها كنزاً ونبعاً فيضاً  بالعلوم والحكم والفوائد إلى يوم القيامة  , فالمثل سواء كان ببعوضة –وهي من الهوان بمكان -  أو بما هو أكبر من ذلك وأرقى في الخلق والتقدير , فإن حكمة الأمثال القرآنية وقيمتها العلمية والتربوية لا تنقص ولا تتردى عن  سموها وجلالها وإمتداد آثارها النفسية والعقلية في هداية من شاء الله تعالى لهم الإهتداء  بها وبسببها , فالبعوضة وما تحتها حتى الذرة  وما فوقها حتى العرش واللوح  , كلها من خلق الله تعالى وله تدين بالوحدانية , في الربوبية والألوهية , والأسماء والصفات  , طوعاً وكرهاً , فلا فرق بالنسبة لله تعالى في سوق المثل وكشف المعاني والدلالات والعبر , ببعوضة مرة , وبعنكبوت مرة , وبرجل , وامرأة ,  في مرات آخري  , فإن الله تعالى يسوق ويضرب الأمثال بما شاء وكيف شاء , ويصرفها كيف يشاء , ويهدى بها من يشاء , ويجعلها سبب في ضلال من يشاء من عباده , كل ذلك تبعاً للحكمة البالغة , والقدرة الكاملة , والعلم الشامل المحيط .والأمثال في القرآن  الكريم لها شأن عظيم , وإهتمام القرآن بها وتكراراها في مواضع كثيرة منه يدل على ذلك , ولأنها من مفاتيح العلوم  , وأبواب للمعارف , وبهجة للناظرين في كتاب الله تعالى , وتحدى قائم للأولين والآخرين , فإن فهمها وإستخراج العبر منها , وقفاً على المتدبرين ذوى العلم والعقل السديد , الذين علموا وأيقنوا أنه من عند الله تعالى صدقاً وعدلاً , لا ريب فيه وبه إهتدوا  وفيه حياتهم وسلواهم  , وبلاغهم إلى مولاهم  الحق , فلا إله  إلا الله , ما طابت  الدنيا إلا بالقرآن وما أطقنا العيش فيها لولا القرآن , ولولاه ما زكى منا أحد ولا بلغنا ولا كنا شيئاً مذكوراً , فلا إله إلا الله  فكيف  لنا أن نوفى نعمة القرآن حقها وشكرها  , اللهم عفوك وغفرانك , ورحمتك بنا وقد أحاط بنا العجز و التقصير والتفريط , ولا ملاذ لنا ولا ملجأ  إلا إليك .

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَٰسِقِينَ﴿٢٦﴾ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن  بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ ﴿٢٧﴾

  الآية الكريمة تكشف لنا بجلاء إنقسام الناس في مرآة القرآن الكريم إلى قسمين  , مؤمن به ,وكافر به , وذلك من خلال استقبال الفريقين  للقرآن الكريم , وما فيه من منهج قويم  ونهى عن كل ذميم , فمن آمن به كلٌ من عند الله , وتبعه واحتكم إليه  وخضع له ولم يتقدم بين  يديه بمنهج آخر , ولا بحكم آخر , ولا برئ  ولا اجتهاد  , فهذا هو المؤمن في حكم الله تعالى  وله البشرى وحسن مآب , والعكس  بالعكس , فمن تلقى القرآن بشك أو رد  أو تردد في تحكيمه في كل شأن وأمر , أو قدم عليه غيره أياً كان هو , أو يزعم أنه غير كافٍ بنفسه  لكل ما يعنينا من أمور الدنيا والدين , وبالتالي  يحتاج إلى غيره , للتتم  حجته على العالمين  , ويبلغ سلطانه الأولين والآخرين , فهو فاسقٌ كافرٌ مبين , فهؤلاء بينهم وبين القرآن حجاباً مستوراً  وهو عليهم عمى , وعن الصراط ناكبون , لا يفقهون منه شيئاً ولا يسمعون ولا يعقلون , ولقد أسمعهم الله تعالى كلامه , فتولوا وهم معرضون عنه منهاجاً وحكماً عربياً قيماً , فحرموا من وروده والسقيا من شرابه , وطُردوا من جنته ورياضه , وهبطوا من سمائه وعليائه وصحبة أهله وأولياءه , إلى واد سحيق مظلم في أسفل سافلين , ترتاع فيه الشياطين وكل أفاك أثيم  الذى كان يسمع آيات الله تتلى ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها , كأن في أذنيه وقراُ , فهو في العذاب الأليم , وحسبنا الله ونعم الوكيل , نلوذ به ونلجأ إليه ونستغيث به ونتضرع أليه من هذا الحال وذلك المصير .

والرسم القرآني الفريد يرسم هذا المعنى السابق بيانه  - وما خفى  عنا  من المعاني والدلالات أعظم وأكثر وأجل – في كلماته  , فنرى كلمة الفاسقين بغير ألف مرسومة ,ونرها إشارة إلى سرعتهم وتهوكهم في الغواية والضلال والصد عن سبيل الله تعالى , رغم  أن الهداية بين أيدهم , والقرآن يتلى عليهم يناديهم ويفتح لهم أبواب التوبة ويزكيهم , فأبوا إلا الإعراض والنكران , فعاملهم الله تعالى بما يستحقون , جزاءً وافقاً , كما يشير رسم الكلمة  لسفاهتهم وحقارة شأنهم عند الله تبارك وتعالى , فهو تعالى لا يبالى بهم , ولا يعجزونه  , وهو غنى عنهم وعن العالمين , كما نراها إشارة إلى عجيب أمرهم , وإختلال موازينهم , وفساد طريقتهم , إذ كيف يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير  , واعرضوا عن كتاب ربهم وهديه  , وذهبوا في كل طريق بددا يرجون الهدى من غير منبعه , , فنقضوا العهد مع الله تعالى , الذى واثقهم به , واشهدهم على أنفسهم  , فأقروا بالعبودية له والإفتقار إليه , ثم هم يصدفون عن منهجه وهديه المنزل , وشرعه المحكم  , إلى زبالة العقول , وكُناسة الآراء والتصورات والشرائع الوضعية ,فقطعوا أنفسهم عن كل سبب للهدى وكل طريق للنجاة  , وكل فرصة للتوبة والإنابة , وقطعوا الطريق بيهم وبين  فطرتهم, وقطعوا كل أسباب الخير والبركة عن أنفسهم بسبب فسقهم ونقضهم ميثاق ربهم , فلإيمان والعلم الصالح , يصل العبد بخالقه سبحانه ويفتح الطريق  أمام فطرته لتعمل في الإتجاه الصحيح لتتوافق مع فطرة الكون , فيتصل بالأسباب الكونية للبركة والنماء والخيرات الظاهرة والباطنة , والعكس بالعكس  فالكفران والذنوب والآثام , تفسد الحرث والنسل , في البر والبحر . 

قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿٩٦﴾ الإعراف

ولأن خسارة الفاسقين الذين نقضوا العهد مع الله تعالى , واتجهوا بالأسباب المسخرة لهم , إلى ما تمليه عليهم أهوائهم وأغراضهم العاجلة القريبة , لأن خسارتهم خسارة جسيمة وحقيقةً لا ريب فيها , وواقعة حالاً وماءلاً , ما داموا ناكبون عن الصراط , جاءت جملة (أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ) بهذه الصياغة وهذا الرسم لكلمة خاسرون لتدل على هذا المعنى ,ولتدل على عدم شعورهم بهذا الخسران المبين الفادح الذى لم يبق لهم أهلاً ولا نفسا يوم القيامة , رغم تمتعهم بملذات الدنيا الفانية , التي نقضوا العهد من أجلها وبسببها ! فهم ساعون في الخسران ليلاً ونهاراَ , وبكل جهدهم والأسباب المتاحة المسخرة لهم !


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟

 لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟ وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَد...

مشاركات شائعة