بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 نوفمبر 2020

كيف نفهم الأفعال المنسوبة لله تعالى في القرآن الكريم كالمخادعة والإستهزاء والمكر

 

عقيدة التجسيم والتشبيه والمماثلة هي سبب ضلال وكفر كل الأمم الغابرة من الوثنين وكذلك اليهود والنصرى


اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي  طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ ١٥

 ينبغي أن نفهمها في إطار القاعدة القرآنية الفذة ( ليس كثله شيء وهو السميع البصير ) فهي لا تشبه أفعالنا لا من قريب ولا من بعيد  , إنها كما تليق بجلال الله تعالى وهى من كمال قدرة الله تعالى وقيوميته وعدله , لذلك هي في حق الله تعالى من صفات الكمال والجلال وليس النقص , فكما أننا لا ندرك كنه الذات فكذلك لا ندرك كنه الصفات وأفعال الله تعالى هي من آثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا تبارك وتعالى , وهذا الباب مما لا مدخل فيه للعقول والأفهام  , فلا قياس ولا مشابه , إنما نؤمن بها إجمالا في إطار التقديس والتنزيه والجلال لذى العزة والجبروت تعالى , فنثبتها كما وردت في كتاب ربنا تعالى في سياقها على محمل التنزيه والتقديس بلا تشبيه المجسمة الزنادقة من هذه الأمة واليهود والنصرى والأمم الغابرة ,

عقيدة التجسيم والتشبيه والمماثلة هي سبب ضلال وكفر كل الأمم الغابرة من الوثنين وكذلك اليهود والنصرى

ومن ينظر في تاريخ العقائد يرى أن عقيدة التجسيم والتشبيه والمماثلة هي سبب ضلال وكفر كل الأمم الغابرة من الوثنين وكذلك اليهود والنصرى  , وهذا الكفر الذنيم قد سرى في هذه الأمة المحمدية وإنتشر إنتشار النار في الهشيم , فجرت عليهم وفيهم سنة الأولين , وتفرقوا كما تفرق الأولون  وإختلفوا من بعد ما جاءتهم البيانات من ربهم وفيهم كتاب الله تعالى ناطق بالحق المبين , فسنة الله تعالى في الأولين والأخيرين أن من أعرض عن هدى الله تعالى المنزل على أوليائه من الأنبياء والمرسلين وطلب الهدى في غيره وإستبدل الذى هو أدنى بالذي هو خير أن يضل ضلالاَ مبينا  , وأن يختلفوا ويتفرقوا شيعاَ وأحزاباَ ويتمزقوا في الأرض متحاربين.  ولا يمكننا النجاة من هذا الضلال المبين إلا بتوحيد المصدر والمشرب الذى نستقى منه التصور والإعتقاد والمنهج الذى يهدينا الصراط المستقيم  , وهو كتاب الله تعالى حصراَ وقصراَ لا نحيد عنه ولن نجد من دونه ملتحدا فهو حبل الله المتين ومنهجه القويم لمن أراد الحق والدار الآخرة ولقاء الله تعالى ,  لذلك ينبغي ألا نصف الله تعالى ولا نسميه إلا بما ورد في الكتاب المبين , ولا نفتأت على الله تعالى ولا نتقدم بين يديه , ولا نقترح عليه ولا نحكم عقولنا في ما لا طاقة لنا به , ونلزم أدب الأنبياء والمرسلين والذين أنعم عليهم رب العالمين الذين لم ينجرفوا مع تيار التجسيم العاتي , ولم  ينحرفوا إلى طريقة المعطلة الزنادقة المتقدمة بين يدي رب العالمين ,ولا المتأولين المحرفين لأسمائه وصفاته تعالى وهم يظنون أنهم أحكم طريقة وأهدى سبيلا ممن لا ينحوا نحوهم !

  نرى كلمة ( طُغْيَٰنِهِمْ) في الرسم القرآني الفريد مختلفة عن الرسم الإملائي  , وهذا الإختلاف يدل على معنى عميق من ناحية الدلالة والإشارة ,ليس متعارضاً مع معناها الظاهر , ولكن وراء هذا المعنى الظاهر عمق وبعد دلالي وبياني لا يدركه إلا القاصدون له المتدبرون المؤمنون بشموله وإحاطته بكل شيء علماً وتبياناً , وتمامه واستغناءه عن كل ما سواه , وهيمنته على كل كلام آخر وكل كتاب وكل فكر وكل تصور وعلوم عقلية أو تجريبية ,  فهم بدايةً اعتقدوا أن الإيمان مجرد كلمة تقال بلا أي التزام اعتقادي وعملي , فهم يحاولون مسخ الإسلام من منهج حياة شامل لمن آمن به إلى مجرد عقيدة باهتة لا أصل لها في القلب , ولا أثر لها على الجوارح من ناحية الفعل أمراً ونهياً 

  ثانياً : هذا التصور الفاسد للإيمان قابل هوىً وشهوات في قلوبهم , فتمكن منها حتى أصبح مرضاً في قلوبهم , فنتج عن مرض قلوبهم فساد أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً , " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلُحت  صلُح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهى القلبُ" كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فزادهم الله تعالى مرضاً إلى مرضهم بسبب إعراضهم عن التذكرة ورفضهم النصيحة من المؤمنين , وإصراهم على أعمالهم الفاسدة التي يصدون بها عن سبيل الله تعالى , وعتوا وبالغوا في العتو والكبر على عباد الله المؤمنين أن وصفوهم بالسفهاء ,  أي لا رأى لهم ولا دراية ولا نظر في الأمور وعواقبها مثلهم !                                                   

فانقلبت أمورهم رأساً على عقب فأصبح المعروف منكراً ,. والمنكر معروفاً , فإذا لقوا المؤمنين زعموا أنهم أكمل منهم إيماناً وأهدى طريقةً , وإذا إجتمعوا في مجالسهم - مجالس اللهو واللعب -سخروا من المؤمنين وضحكوا عليهم ومن حالهم , ووصفوهم بما لا يليق من الأوصاف والألقاب التي تناسب فساد عقيدتهم ومرض قلوبهم , وهذا المرض هو حب العاجلة والسعي لها والفرح بها إذا أقبلت والحزن عليها إذا أدبرت , ونسوا الآخرة وأهوالها  , فسدوا على أنفسهم كل أبواب الهدى والنجاة من العذاب الأليم يوم القيامة , وقد وصفهم القرآن في آيات كثيرة  منها قول تعالى :     (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿٢٩﴾ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴿٣٠﴾ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴿٣١﴾ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴿٣٢﴾ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴿٣٣﴾  سورة المطففين  

كيف نفهم قوله تعالى " اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ " فهماً صحيحاً؟

  ولما وصلوا إلى هذه الحالة من العمى والغطرسة في وجه الحق , عاملهم الله تعالى معاملة المثل , فالله تعالى يرد عليهم إستهزائهم بعباده المؤمنين فيرتد عليهم إستهزائهم , فاصبحوا يستهزئون بأنفسهم , ويسخرون منها  , وإمدادهم في طغيانهم بالمال والبنين وإقبال الدنيا عليهم من كل باب يطرقوه , وتغلق عنهم أبواب المكروه والبلاء , فيزدادون غيا وعمى ومرضاً فهم يعمهون . 

أي أن فعل الله تعالى معهم وبهم في حقيقته المطلقة في عالم الأمر عدلاً وقسطاً بموجب أسمائه وصفاته المقدسة وصورة  الفعل في العالم السفلى , عالم الدنيا والمادة والصور , تبدو سخرية وإستهزاءً , فالسخرية والإستهزاء والمخادعة , هذه الأفعال التي وردت في هذه الآيات الكريمة , ليست من أفعال الله تعالى المقدسة مباشرة , بحيث تنسب إليه في جملة صفات الأفعال ! 

تعالى الله وجل عن المناظرة والمشابهة والمثلية والندية , كما تعالى عن كل صفات النقص وكل أفعالها الناتجة منها , لذلك كل هذه الأفعال في القرآن الكريم , هي صورتها كما تبدو في عالم المادة المحسوس والمتناقض  عالم الدنيا والأسباب . 

 لكن هذه الأفعال القدسية في أصلها وحقيقتها هي من آثار أسماء رب العالمين تبارك وتعالى الحسنى وصفاته العليا التي تحيط بكل الوجود , وآثارها تعمل في كل آنٍ بلا إنقطاع .  فهي في أصلها وحقيقتها من آثار صفات الحكمة والعدل والإنتقام والقيومية ... وهذه الآثار متحتمة قاهرة لا محيص عنها ولا مفر منها ما دامت أسبابها قائمةً في هذا العالم من أفعال المكلفين , فإن الله تعالى لا يغيروا ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم , وهكذا نفهم مثل هذه الأفعال , فبصورتها المادية في عالم الأسباب -مخادعة - سخرية - إستهزاء - وحقيقتها في أصلها ونسبتها لصفات الله المقدسة العلوية -حكمة - عدل - قيومية - إنتقام- فلا ينسب لله تعالى صور مفعولاته التي تقع في عالم الدنيا في صور المماثلة والمكافأة , ولكن ينسب إليه ما هو أهل له تبارك وتعالى من صفات الجلال والإكرام التي ليس فيها نقص ولا ينتج عنها نقص و عجز , وإلا لو سخر أعداء الله تعالى من أوليائه وخادعوهم ومكروا بهم , ثم لم يكافئهم رب العالمين تبارك وتعالى بمثل ذلك , قوةً وإقتداراَ وقهراً وإنتقاماً , لصار عجزاً , في حق المولى جل في علاه وتبارك , والله تعالى منزه عن كل نقص , في أفعاله وفى مفعولاته , وفى ذاته وأسمائه وصفاته, 

لذلك ورودها في القرآن الكريم بصورتها في عالم المادة والأسباب , تخويفاً وردعاً لهؤلاء المعنيون بالخطاب مباشرةً ومن هو على شاكلتهم في كل زمان ومكان  , وتقريراً وافياً وبيان للمؤمنين أن الله تعالى يرد عنهم كيد أعدائه وأعدائهم ويمكر بهم , ويرد عليهم بمثل فعلهم في الصورة , إلا أنه في كيفيته وحجمه وحقيقته شيء مهول يفوق ويتخطى كل حد يتخيلونه . 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟

 لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟ وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَد...

مشاركات شائعة