العبودية أصل تكوين الإنسان وفطرته |
الآية الكريمة تحمل أول نداء في القرآن لكل الناس نداء عالمي أممي يدعوهم إلى أهم المهمات وأولى الأولويات لتحقيق أعظم الغايات وعلة خلق الأرض والسموات وسبب وجود وحياة الإنسان , إنها عبادة رب العالمين الإله الحق المبين لا شريك له الذى تنزه عن النظير والشبيه وتعالى عن الشريك والنديد وتقدس في عليائه بلا معين ولا ظهير , الكل إليه فقير ... فقر ذات وصفات وأحاط بهم العدم من كل الجهات وكل ذر ة فيهم ومنهم مفتقرة إليه تعالى في الإيجاد والإمداد, ومنع العدم المحيط بهم من النفاد إليهم ليبلغوا الغاية من خلقهم وتتحقق فيهم مشيئته تعالى غير ظالم لهم , ولأن الأنسان من طبيعته النسيان والخطأ فالله تعالى جده وتبارك اسمه ينادى الناس بهذه النداء ليذكرهم بالعهد الذى عاهدوه والميثاق الذى واثقوه , قبل النزول والمجيء إلى ساحة الإختبار وزمن الإبتلاء , وجعل فيهم ـ في أصل التكوين ـ فطرة الإيمان بالربوبية , وصيرورتهم واضطرارهم وتسربلهم بالعبودية له تعالى لا محيص من ذلك ولا إنفلات مهما علو في الأرض واستكبروا فيها , وطغوا في الأرض وظنوا أنهم إستقلوا بأمرهم وحكموا بأهوائهم فيما لا يملكون ونسو أو تناسوا أنهم عبيد الله تعالى وأنهم والعدم سواء إلا أن الله تعالى يمسكهم بقدرته وعظيم رحمانيته من أن يزول وجودهم وتضمحل كينونتهم , حتى يبلغ الكتاب أجله ويبلغ كل منهم ما قدر له وما كتب عليه حتى تحق الحقائق يوم القيامة ويأذن الله تعالى بزول السموات والأرض بنفخة في صور الموت والخراب .... ثم تتبعها نفخة آخري في صور الحياة والنشأة ألآخرة , فيخلق الله جلت قدرته كوناَ جديداَ معمراَ تليداَ مسبحاً بحمد رب العالمين خاضعاَ ذليلاَ ليس فيه كافراَ ولا شيطاناَ مريدا .
يدعونا ربنا تعالى تقدس اسمه إلى عبادته وحده بلا شرك ولا شركاء ولا شفعاء يقربونا إليه زلفى لم يأذن بهم مولنا تبارك اسمه , يأمرنا بإخلاص العبودية والدينونة له تعالى وحده لا شريك له .
ولتحقيق معنى العبادة ينبغي أن نعلم أن العبودية في الإنسان وصف ذات , فهي صفة متأصلة في أصله وتكوينه فطره الله تعالى عليها لا ينفك عنها ولا تنفك عنه
ولذلك كان لابد من الإشهاد وأخذ الميثاق على كل نفس بعد خلقهم مباشرةً كأنفس مجردة وقبل الأمر للملائكة بالسجود لآدم , فإن الله تبارك وتعالى ما كان ليخلق الإنسان مفطورا على العبودية ثم يأت به للدنيا - ساحة الإختبار وزمن الامتحان- قبل أن يعرفه معبوده الحق ومربوبه الذى لا شريك له , فإن ذلك يتنافى من كمال رحمانيته وعظيم عدله وتمام نعمته ومقتضى حكمته , بل كان لابد من ذلك حتى لا تكون للعباد على الله حجة أو معذرة , قال تعالى
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ ﴿١٧٢﴾ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴿١٧٣﴾ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿١٧٤﴾)الإعراف
واقتضى ذلك بعثة الرسل وإنزال الكتب وتتابع الرسلات والنذر لتذكير الناس بالعهد الذى عاهدوا الله عليه والميثاق الذى واثقوه , وهكذا تمت الحجة وقامت البينة وانقطعت المعاذير وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً واستبان سبيل الله ومنهجه القويم في الإستمساك بهدى القرآن الكريم حجة الله تعالى على العالمين وصراطه المستقيم ومن أعرض عنه هلك في سبل الشيطان اللعين ولا عزاء له يوم الدين ولا مفازة له من العذاب الأليم . أقول ... لما كانت العبودية في أصل تكوين الإنسان حكمة بالغة من الله تعالى وقهر مطلق ونعمة سابغة أن فطرنا على العبودية والربوبية له تعالى لا لغيره ولا لأحد سواه لا لشمس ولا قمرٍ ولا نجم ولا ملك ولا نبي ورسول ولا أنسٍ ولا جانٍ , وكل إنسانٍ بعد ذلك على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره , فمنهم كافرٌ ومنهم مؤمنٌ شاكر .
ولهذا نرى الإنسان عبر تاريخه في ساحة الإختبار وزمن الامتحان إما عابدٌ لله جلا جلاله وإما عابدٌ لغيره من مخلوقات الله تعالى التي سخرها للإنسان الجاحد الكفور الجاهل الظلوم , فهو لا ينفك عن صفة العبودية ولا تنفك عنه مهما طغى واستكبر وتأله وتجبر على عباد الله , إن المستكبرين من عباد الله تعالى هم الذين أغواهم الشيطان اللعين وأنساهم ذكر العهد والميثاق ونفخ فيهم من روحه النجسة الخبيثة فصاروا له عابدين ومن جنده المجندين وله موالين من دون مولاهم الحق المبين فخرجت منهم الروح الطاهرة النقية التي وهبهم الله تعالى إياها لأنها لا تجتمع مع روح الشيطان اللعين في جوهر واحد كما لا يجتمع الليل والنهار ولا الظلمات والنور .وأكثر الناس خلطوا عبادتهم لله تعالى بعبادة الطاغوت , قال تعالى : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿١٠٣﴾ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴿١٠٤﴾ وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴿١٠٥﴾ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴿١٠٦﴾ )
وقال تعالى: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّـهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿٣٦﴾
وعبادة الطاغوت تكون في أشكال وصور شتى من العبادة من دعاء واستغاثة وتضرع وسؤال الحاجات الغيبية وطلب الشفاعات ورجاء المنفعة وسعة الرزق والالتجاء لها لدفع الضر . أو التنسك لغير الله تعالى بالصلاة أو الصيام أو الذبح أو الطواف والتقديس وإلتماس البركات فكل من ادعى ذلك لنفسه أو لغيره من العبيد فهو طاغوت معتدٍ لحده وظالم لنفسه بتعرضه لمقت الله وسخطه , كاذب لنفسه ومخادعٌ للناس الذين يستخفهم بباطله ويستتبعهم بجهلهم وغباوتهم وغوايتهم . أو تلقى التشريعات والتصورات والدساتير والقوانين الملزمة من الطاغوت بغير إذن وسلطان من الله تعالى وهو وحده صاحب الحق في كل ذلك , فإن التشريعات والمنهج والتصورات والموازيين والقيم والأخلاق وحدود المعاملات ومرجعية القضاء والحكم كل ذلك لا يكون إلا لله تعالى , وكل ذلك مبين في كتاب الله تعالى ومنهجه القويم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد- قال الله تعالى ( ...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴿٨٩﴾)
لذلك فإن حقيقة الإيمان وأصل الإسلام عبادة الله تعالى وحده إعتقاداَ وقولاَ وعملاَ والكفر بكل عبادة صرفت لغير الله تعالى وكل
\معبودٍ إتخذه الناس ظلماً وجهلاً والبراءة التامة من الشرك بكل صوره القديمة والحاضرة وممن أشرك بالله تعالى ومن شركائهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين ممن عبدو بغير رضاً ولا علم لهم بذلك .
فالإسلام يدعو الناس للرجوع للفطرة والوفاء بالعهد والميثاق وإخلاص الدين كله لله تعالى وأرسل الله تعالى الرسل وأنزل معهم الكتب رحمة منه تعالى بالعباد وشفقة عليهم وتشريفاً لهم ورفعاً لذكرهم وأفاض عليهم من نعمه وأحاطهم بواسع فضله وسخر لهم ما في السموات والأرض جميعاً منه بلا أي إستحقاقٍ منهم لذلك ولا غناء لهم عن قيوميته وربوبيته طرفة عين ولا أقل منها , فهم في واسع فضله ونعمته يرفلون وفى عافيته وحلمه يغدون ويرحون , وتحت قهره وإحاطته يتصرفون تصرف المالك فيما لا يملكون حقيقةَ, ومشيئته نافذةً فيهم رغم مشيئتهم ولا يعلمون .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق