بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 27 نوفمبر 2020

في رحاب سورة البقرة الكريمة




أَخْرَجَ أَحْمَدُ والبخاري فِي تَارِيخِهُ وَمُسْلِمَ وَالتِّرْمِذِيّ وَمُحَمَّدَ بُنِّ نَصْرِ عَنْ نُوَاسِ بُنِّ سَمْعَانِ قَالَ سَمِعَتْ رَسُولُ اللهِ ' صَلَّى اللَّهُ ' عَلَيه وَسَلْمَ ‏ يَقُولُ : يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ وَأَهَلَهُ الَّذِينَ كَانُوا يُعْمِلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيا تَقَدُّمَهُمْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عُمْرَانَ ,  وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمَ وَأَبُو نَعِيمَ فِي الدَّلائِلِ عَنْ أَنَسَّ بُنُّ مَالِكَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ إذاً قَرَأَ الْبَقَرَةُ وَآلِ عُمْرَانَ جِدِّ فِينَا يَعْنِي عَظْمُ ,  وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ وَحَسَنَهُ وَالنَّسَائِيّ وَاِبْنَ ماجة وَمُحَمَّدَ بُنُّ نَصْرِ الْمَوْزِيِ فِي كُتَّابِ الصَّلاَةِ وَاِبْنَ حبَان وَالْحاكِمَ وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ ‏ الْإِيمَان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَعْثِ رَسُولُ اللهُ ' صَلَّى اللَّهُ ' عَلَيه وَسَلْمَ بَعَثَا وَهُمْ ذَوُو عَدَدِ فَاِسْتَقْرَأَهُمْ فَاِسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلُ مِنْهُمْ يَعْنِي مَا مَعَه مِنْ ‏ الْقُرْآن فَآتَى عَلَى رَجُلُ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدَثِهُمْ سَنَّا فَقَالَ : مَا مَعَكِ يَا فُلَانٌ قَالَ : مَعَي كَذَا وَكَذَا وَسَوْرَةَ الْبَقَرَةُ قَالَ : أَمَعَكِ سُورَةَ الْبَقَرَةُ قَالَ : نِعْمَ قَالَ : اِذْهَبْ فَأَنْتِ أَمِيرَهُمْ فَقَالَ رَجُلُ مِنْ أَشرافِهُمْ وَاللهَ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعْلَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةُ إلّا خَشْيَةَ أَنْ لَا أَقَوْمَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهُ ' صَلَّى اللَّهُ 'عَلَيه وَسَلْمَ : تَعْلَمُوا الْقُرْآن واقرؤه فَإِنَّ مِثْلُ الْقُرْآن لَمِنْ تَعَلُّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمِثْلُ جِرَابَ مَحَشُّو مَسَّكَا يفوح ريحَهُ فِي كُلَّ مَكَانَ وَمِثْلُ مِنْ ‏ تَعَلُّمَهُ فَيُرْقِدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهُ مِثْلُ جِرَابَ أوكى عَلَى مُسَكِ , وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيّ فِي سَنَنِهُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ : قَلَتْ لِاِبْنِ عَبَّاسِ : إِنَّي سَرِيعَ الْقِرَاءةِ ‏ فَقَالَ : لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةُ فَأُرَتِّلُهَا أَحُبَّ إِلَيِ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآن كُلَّه , وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي رُوَاةِ مَالِكَ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ الإِيمان عَنْ اِبْنِ ‏ عُمَرِ قَالَ : تَعَلُّمُ عُمَرِ الْبَقَرَةُ فِي اثْنَتَيْ عِشْرَةَ سَنَةِ فَلَمَّا خَتْمَهَا نَحْرَ جَزُورَا , وَذكرَ مَالِكَ فِي الْمُوَطَّأ : أَنَّه بَلَّغَهُ أَنْ عَبْدِ اللهُ بُنُّ عُمَرِ مُكْثِ عَلَى ‏ سُورَةَ الْبَقَرَةُ ثَمانِي سِنِين يَتَعَلَّمُهَا وَأَخْرَجَ اِبْنُ سَعْدِ فِي طَبَقَاتِهُ عَنْ مَيْمُونِ أَنْ اِبْنُ عُمَرِ تَعَلُّمُ سورَةٍ الْبَقَرَةُ فِي أَرُبُعِ .


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اِلْمِ ﴿ ١ ﴾ ذ ٰ لَكَ الْكِتَب لَا رَيْبَ ۛ فِيه ۛ هُدى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿ ٢ ﴾

 أَخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرِ عَنْ اِبْنُ عَبَّاسِ فِي قَوْلِهُ { هُدى لِلْمُتقين } قَالَ : لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَيُعْمِلُونَ بطاعتي , وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدَ بُنُّ حَمِيدِ ‏ وَالْبُخَارِيَّ فِي تَارِيخِهُ وَالتِّرْمِذِيّ وَحَسَنَهُ وَاِبْنَ ماجة وَاِبْنَ أَبِي حَاتِم وَالْحاكِمَ وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَطِيَّةِ السَّعْدِيّ وَكَانَ مِنْ  الصّحابَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهُ ' صَلَّى اللَّهُ ' عَلَيه وَسَلْمَ لَا يُبْلِغُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَنْ يُكَوِّنَ مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْس بِهِ حَذَّرَا لَمَّا بِهِ بَأْس ,وَأَخْرَجَ اِبْنُ أَبِي الدُّنْيا عَنْ شبيب بُنُّ شَبَّةٍ قَالَ : تَكَلُّمُ رَجُلُ مِنْ الْحكماءِ عِنْدَ عَبْدِ الْمِلْكِ بُنُّ مروَانِ فَوَصْفَ المتقي فَقَالَ : رَجُلُ آثَرَ اللهُ عَلَى  خلقَهُ وَآثَرَ الْآخِرَة عَلَى الدُّنْيا وَلَمْ تَكْرُبُهُ الْمَطَالِبَ وَلَمْ تَمْنَعُهُ الْمَطَامِعَ نَظَرَ بِبَصَرِ قُلَّبِهُ إِلَى مَعَالِي إِرَادَته فَسَمَّا لَهَا ملتمساً لَهَا فَزُهْدَهُ مَخْزُونَ يَبِيتُ  إذاً نَامَ النَّاسُ ذَا شُجُونَ وَيُصْبِحُ مَغْمُومَا فِي الدُّنْيا مَسْجُونَ قَدْ اِنْقَطَعَتْ مِنْ هِمَّتِهُ الرَّاحَةَ دُونَ مُنًيَتِهُ فشفاؤه الْقُرْآن ودواؤه الْكَلِمَةَ مِنْ الْحكمةِ وَالْمَوْعِظَةَ الْحَسَنَةَ لَا يَرَى مِنْهَا الدُّنْيا عَوَّضَا وَلَا يَسْتَرِيحُ إِلَى لَذَّةِ سواهَا , فَقَالَ عَبْدِ الْمِلْكِ : أَشُهَّدُ أَنْ هَذَا أُرْجِئَ بَالَا مَنَّا وَأَنْعَمَ عَيْشًا ,‏ وَأَخْرَجَ اِبْنُ أَبِي شيبَة وَأَبُو نعيم فِي الْحِلْية عَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ: لَا يكون الرجل من الْمُتَّقِينَ حَتَّى يُحَاسب نَفسه أَشد من محاسبة شَرِيكه حَتَّى تعلم من أَيْن مطعمه وَمن أَيْن ملبسه وَمن أَيْن مشربه أَمن حل ذَلِك أَو من حرَام   

الحروف المقطعة في أوائل السور تلك الحروف النورانية مجموعة في قولهم " نص حكيم له سر قاطع " وهى من أسرار الكتاب المقدس , وكم له وفيه من الأسرار ما لم يخطر على بال أحد حتى وقتنا هذا بعد هذه القرون المديدة من نزول ذلك الكتاب العظيم , وما فُتح لنا من الفهم في القرآن ما يزيد عن نقطة من محيط هادر وقطرة من صيب غامر , ولا غرو فهو كلام الله العزيز الحكيم الذى لا نحيط به علماً ولا ندرك كنه ذاته سبحانه وكنه صفاته وأسمائه , فهو القائل ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴿١٠٩ الكهف  (  وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُر مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٢٧) لقمان  وأرى أن هذه الفواتح النورانية لها علاقة وثيقة بالقرآن نفسه , ثم بالموضوع المحوري للسورة التي بدأة فيها , وسواء علمنا شيء من هذا السر أو لم نعلم  ينبغي ألا نتكلم إلا بعلم وحلم في كتاب الله تعالى , وينبغي أن نعلم أن طهارة الباطن وصلاح النية وإستقامة الطريقة وهيئة الجوارح شرط أساسي في فهم القرآن والغوص في أعماق المعاني والفتوحات القدسية , قال تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) , فلا مسيس للمعاني والفهم عن الله تعالى إلا للمطهرون , نسأله تعالى من فضله العظيم قطرة من فيض جوده  يطهر بها قلوبنا ويمسح بها أوزارنا فنكون محلاً قابلاً للفهم عن الله تعالى  , ورد عن عثمان بن عفان رض الله عنه قال : لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله تعالى . 

وأقول لو طهرت قلوبنا ثم تعرضت لكتاب الله تعالى لفاضت أروحنا وفارقت أجسادنا

 شوقاً للقاء الله تعالى  وما أطقنا العيش في عالم المتناقضات والشرور والآثام   (لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٢١﴾ هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ﴿٢٢﴾ هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ  الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿٢٣﴾ هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢٤﴾,    الحشر     

ولكن الله تعالى بحكمته وعظيم رحمته يفتح على عباده المؤمنين بما تحتمله قلوبهم الضعيفة , وإدراكهم المحدود , وللأنبياء والرسل الكرام من ذلك الحظ الوافر , لما لهم من تهيئة الله تعالى لهم وتثبيتاً لقلوبهم إصطفاءً وتخصيصاً لرسله وأنبيائه الذين يبلغون رسالات الله تعالى . 

                  

                                   ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾

( ذَٰلِكَ) غلب إستخدامها عند العرب للبعيد , ولكنها تأتى في كتاب الله هنا للإشارة للقريب والقريب جداً , قرب لا نستطيع إدراكه والتعبير عنه ,  إن القرآن يلامس أروحنا , إنه يطمئن قلوبنا  , ويهدأ من روعنا , ويبدل أحزننا فرحاً وسروراً , وشفاءً لصدورنا ,ونوراً كاشفاً في ظلمات الشبه والضلال المحيطة بنا , تفيض عند سماعه دموع المحبين , وترتجف أوصالهم , وتقشعر منه جلودهم , كلما تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وإخباتاً وإنابةً وتوكلاً على مليكهم وولي أمرهم , الذى أنزل هذا القرآن روحاً من أمره وفيضاً من إسمائه وصفاته ,      ( ذَٰلِكَ)   لذلك فهي إشارة إلى عمق هذا الكتاب وسعة آفاقه وبعد آماده عبر الزمان والمكان , وعظمة شأنه وعلو قدره ومكانته , وشرف موضوعه ومحتواه , وقدسية أحكامه وأمره ونهياه , علوم باهرة , وحكمة بالغة , وهيمنة قاهرة على ما سواه , وحجة ظاهرة على العالمين  , يحكمُ ولا يُحكمُ عليه , يعلو ولا يُعلى عليه ,  وهذه المعاني نراها في إشارة رسم كلمة الكتاب (الْكِتَٰبُ) , أنه كتاب معجز وليس كأي كتاب , لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .  ومما ينسب للوليد بن المغيرة في السيرة  أنه قال في القرآن : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته " وأقول : ‘إن هذه الوصف لا يمكن أن يصدر من كافر عنيد مثل الوليد ثم لا يؤمن ويخضع لهذه القرآن , فهذا قول ووصف من تذوق بعض آيات القرآن , وفهم لمحة من معانيه , وهناك رواية آخري في السيرة عن الوليد أنه إستمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ., ثم لم يفهم منه شيئاً "فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم  , فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى . أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فرغت ؟ ) . قال : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون إلى أن بلغ : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود _فقال عتبة : حسبك ما عندك غير هذا ؟ قال : ( لا ) . فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته .قالوا : فهل أجابك ؟ فقال : نعم . ثم قال : لا والذي نصبها بينة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة ! 

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ ﴿٣﴾

نرى الآية الكريمة جاءت بالفعل المضارع في وصف إيمان المتقين ,وفى هذا إشارة إلى أن الإيمان يحتاج إلى تجديد واستمراره وعوامل للثبات , لأنه يمكن أن يزول ويحول , أو ينقص ويضعف في قلوب المؤمنين , إن عواصف الشبهات وأمواج الشهوات وكثرت أبواب الفساد , وسهولة مراتع الفاحشة , وعموم البلاء في الأموال والبنين والزوجات ,كل ذلك ينال من صفاء النفس ويكدرها , ويرن على القلوب فتعمى عن  طريق الرشاد , فلابد وحتماً للمؤمنين من دوام التوبة والإنابة , ومعاجلة الذنوب بها قبل أن تقع آثارها , وتحل بدارهم أوزارها , فهم في شغل دائم بربهم ومعبودهم الحق ضراعة ودعاءً وتوسلاً أن يحفظ عليهم إيمانهم ويحول بينهم وبين الكفر والشرك , غلب خوفهم أمنهم , وحذرهم على غفلتهم , لا ينفك عنهم حزن الثكالى , ولا يفرحون إلا بالحق الذى آتاهم من ربهم , ولا يبالون بحطام الدنيا الفانية , ولا تطيب قلوبهم إلا بذكر مليكهم ومعبودهم الحق , فهم في شأن والناس في شؤنٍ شتى , يقيمون صلاتهم على الهيئة المخصوصة التي أمر الله تعالى بها , ولا يلقون بها من على أكتافهم إلقاء الحمل الثقيل , إنهم يقبلون عليها ويستقيمون لها حباً وشوقاً لربهم ومعبودهم الحق , فيها رواحهم ومهوى أفئدتهم , فيها السكينة والطمأنينة لأرواحهم , وجاءت كلمة الصلاة  برسم قرآني فريد (الصَّلَوٰةَ) إشارةً إلى أن هذه الصلاة وإن كانت في أصلها الدعاء إلا أنها  أفعال وهيئة مخصوصة , ليست مما يعهدون  , كما إنها إشارة إلى عظيم قدرها وعلو شأنها وأهميتها في حياة المؤمنين , وجليل آثارها عليهم   فهم لها متشوقون , وعليها يحافظون , لا يشغلهم عنها مالٌ ولا بنون , ولا تجارة يخافون كسادها , ولا لعب ولهو ومجون . فكما أن الصلاة زكاة الروح , فقرين الصلاة زكاة النفس من الشح وإمساك المال في مواضع البذل والنفقة في وجوه البر ابتغاء وجه الله تعالى ,مالك النفس والروح والمال وكل ما يملكون .  فالصلاة قرينة الإيمان ووجهه الظاهر وعلامة عليه ودليل , إذا لم يقترف العبد شركاً , والنفقة قرينة الصلاة , في منظومة إيمانية متكاملة تزكى النفوس وتسمو بالأرواح وتهذب الحواس وتحول بين العبد وبين الرذائل والدنايا  والسقوط في مراتع الرجس والغواية , قال تعالى (... مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٦﴾) المائدة                               

الْحَرْث بن قيس أَنه قَالَ لِابْنِ مَسْعُود: عِنْد الله يحْتَسب مَا سبقتمونا بِهِ يَا أَصْحَاب مُحَمَّد من رُؤْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ابْن مَسْعُود: عِنْد الله يحْتَسب إيمَانكُمْ بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم تروه إِن أَمر مُحَمَّد كَانَ بَيْننَا لمن رَآهُ وَالَّذِي لَا إِلَه غَيرهمَا آمن أحد أفضل من إِيمَان بِغَيْب  ,وَأخرج أَحْمد وَابْن حبَان عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله طُوبَى لمن رآك وآمن بك   , قَالَ: طُوبَى لمن رَآنِي وآمن بِي وطوبى ثمَّ طُوبَى ثمَّ طُوبَى لمن آمن بِي وَلم يرني  ,  وَأخرج ابْن جرير عن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِقَامَة الصَّلَاة إتْمَام الرُّكُوع وَالسُّجُود والتلاوة والخشوع والإِقبال عَلَيْهَا فِيهَا11


وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٤﴾

  وهنا نجد الإيمان بما نزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهو الحقُ من ربهم بصيغة المضارع المستمر , مما يعنى إستمساكهم بالقرآن والمداومة على ذلك , والعمل به منهجاً قيماً شاملاً لحياتهم بكل تفاصيلها ظاهرها وباطنها فهم يحكّمونه على سرهم وعلانيتهم , ويتبعونه وهو إمامهم ودليلهم وهاديهم والسراج المنير والصراط المستقيم , فهم يتبعونه ليس كالعميان في قطيع بلا وعى , وإنما يتبعونه لأنهم علموا وأيقنوا أنه الحقُ من ربهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿٢﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ  كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴿٣﴾ سورة محمدٌ صلى الله عليه وسلم  والإيمان بالكتب السابقة إجمالاً وتفصيلاً لما ورد ذكره في القرآن الكريم , والإيمان بالكتب السابقة يعنى الإيمان بأن الله تعالى لم يترك الأمم الماضية بغير رسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب والصحف لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ,فالرسالات والكتب المقدسة لم تنقطع  في زمن من الأزمنة الماضية , وهذا جانب أصيل من عقيدة المؤمنين ,أن الله تعالى أقام الحجة التامة البالغة على الناس ولا حجة للناس على الله تعالى  .   وبنفس الصيغة يأتي يقينهم بالأخرة , هذه الصياغة التي تشير إلى الإيمان أي الإعتقاد وإلى العمل بذلك الإعتقاد  فعقيدة الإيمان باليوم الآخر من أصول الديانة , والتعبير عن هذا الأصل العظيم بهذه الصيغة (يوقنون) يعنى أولاً : لم تأت بكلمة يؤمنون كما وردت في أول الآية والتي قبلها  , وإنما جاءت يوقنون لأنهم لما آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقهم الله تعالى وآمنوا بالقرآن وعملوا بما فيه والتزموا منهجه وآمنوا بأن الله تعالى أقام الحجج البالغة على العالمين من قبل , أدى بهم ذلك إلى مرحلة ودرجة اليقين بالأخرة ِ , فهم على يقين منها وبها ,       

ثانياَ : لما جاءت بصيغة المضارع دل ذلك على عمل يعملونه ويبذلون فيه جهدهم , وهو العمل للآخرة والإعداد لها وسعوا لها وإليها سعياً حثيثاً   كما ورد هذه المعنى في آية سورة الإسراء : (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴿١٩﴾ كما في هذه الآية إشارة إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت الدليل على خلافه  والمعيار في ذلك كتاب الله تعالى  .

أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (5)

قلت : في هذه الآيات السابقة بيان لصفات المتقين المهتدين الذين افلحوا ونجوا من العذاب الأليم  ,نجد أن صفاتهم كلها صفات فعلية جاءت بصغية المضارع  (  يؤمنون , يقيمون , ينفقون , يوقنون ), مما يعنى استمرارهم وثباتهم على هذه الأفعال بصدق وإخلاص وعلم صحيح تعلموه ليعملوا بموجبه ومقتضاه  , وفى هذا أبلغ رد على المارقة من الدين الذين يدعون أن الإيمان مجرد تصديق القلب أو النطق باللسان ,  والآية التالية بعد تؤكد ذلك أن من لم يتصف ويقوم بهذه الصفة من الإيمان فهو معدوم الإيمان  وبالتالي كان من الكافرين والقرآن من أوله إلى آخره يؤكد هذا المعنى ويبطل ما سواه .                              


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟

 لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟ وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَد...

مشاركات شائعة