هل الجنة التي دخلها آدم عليه السلام هي جنة الآخرة ؟ |
وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿٣٥﴾
فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ ﴿٣٦﴾
فَتَلَقَّىٰٓءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴿٣٧﴾
نرى في الآية الكريمة رسم كلمة يا آدم قد دمج فيها حرف النداء, نفهم منها إشارة لسرعة السكن الذى دخل فيه آدم , ثم تمة نعمت الله تعالى عليه وشملته رعاية الله تعالى وكلاءته , أن خلق له زوجاً من نفسه ومن جنسه ليسكن إليها وتسكن إليه , فآدم من خلق الله تعالى الذى يسري عليه ناموس الزوجية ولا ينفك عنه , فهو خلق ضعيف ناقص من جهات عدة , ولا تمام له ولا تستقر حياته إلا بالسكن والإندماج بزوج من جنسه ونفس صفاته وأكثر منه ضعفاً ونقصاً , وليس ذلك تحقيراً لآدم عليه السلام ولا تنقصاً منه , ولكن الله تعالى خلق آدم في أحسن تقويم , وأبهى منظراً , وأحسن صورة ٍ , ولكنه أيضاً ضعيف البنية , رهيف الإحساس , طويل الأمل , له أعداء من خارجه , ومن داخل نفسه , فالضعف محيط بالإنسان , ولا ينفك عنه , لذلك فطر الله تعالى الإنسان على النزوع دوما للإقتران بزوجه والميل إلى النساء كزوجات يسكن لهن , ويأوي إليها من نصب الحياة الدنيا , وتعينه على بلواها , والميل الفطري للجماعة والإئتلاف مع بنى جنسه , وخلق الإنسان بهذا التكوين الضعيف هو مقتضى حكمة الله البالغة , ورحمة بهذا الإنسان المختبر , فهو ذو نوازع شتى وله رغبات وأشواق , وتسكنه الأهواء والشهوات , وهو في وسط ذلك كله يريد الخلاص , ومن بين ثنايا ضعفه يسمو للتمام , ونوازعه تدعوه للطغيان , وتنحو بنحو الربوبية , فلو لم يكن خلق الإنسان ضعيفاً فقيراً في أصل تكوينه , لا ينفك عنه ذلك أبداً , وهو شاهد على ذلك , لطغى طغيناً كبيراً ولهلك هلاكاً محققا ً لا نجاة منه , وفق مجموع معطيات معادلة خلقه ونشأته والظروف المحيطة به في ساحة الإختبار .
والجنة التي دخلها آدم وزوجه ما هي إلا نموذج مصور من الجنة الحقيقة التي يدخلها المؤمنون في الدار الآخرة , وليست هي جنة الخلود , والفرق بينهما واضح وظاهر , ولا ينبغي الإختلاف عليه , فليس في جنة الخلود إختبار وابتلاء , وليس فيها كافر لعين مثل إبليس , وليس فيها ما يحرم أكله أو شربه , وليس فيها حزناً ولا أسف يصيب أهلها , وليس منها خروج أبداً , وهذا كله كان متحققاً في جنة الإختبار هذه التي سكنها آدم وزوجه . وكان من حكمة الله تعالى البالغة , أن يكون الدرس العملي الأول , والموعظة البليغة , لآدم وزوجه في هذه الجنة "المصورة" من جنة الخلود ليكون الدرس بليغاً , مؤثرا ... فهو وزوجه منعمون مكرمون في هذه الجنة , ولكنه منهىٌ عن هذه الشجرة يحرم عليه مجرد الإقتراب أو اللمس وآدم عليه السلام ما زال بعد يكتشف نفسه , ومازال بعد يحاول أن يؤلف بين نوازعه ونفسه الأمارة بالسوء , وبين روحه الطاهرة المتألقة بجوار ربها ومليكها , ولكن الشيطان الخبيث لم يمهله حتى يملك آدم نفسه , ويسيطر على نوازعه , .. بل بادره الخبيث وهو يعلم حجم الفرصة السانحة له في هذه اللحظة , فآدم عليه السلام في إرتباك نفسي , وقد غلبت عليه غفلة عن عدوه اللدود نتيجة شغله بنفسه , والسياق القرآني المعجز , يجعلنا أمام مشهد مصور كأننا نراه رؤى العين ثلاثي الأبعاد , البعد الحركي الظاهر , والبعد النفسي المتواري عنا , والبعد الزمني , إن القرآن الكريم يصف لنا مجموعة مشاهد مصورة حية من زاويا تصويرية مختلفة , وأبعادها الثلاثية متكاملة , في كلمة واحدة " فَأَزَلَّهُمَا" ! .... إن الدلالات والإيحاءات والإشارات التي تحملها هذه الكلمة المعجزة ., تمثل قصة كاملة , تامة العبرة , بالغة الحكمة , شاهدةً على ضعف الإنسان وتوقه للخلود , شاهدة على شدة العداوة والبغضاء من عدو الله تعالى إبليس لبني آدم أجمعين . لم يتم نزول آدم بعد تكريمه وإظهار شرفه بين الملاء الأعلى الكريم , إلى الأرض مباشرةً , ليبدأ البلاء والإختبار , ولكن إقتضت رحمة ربه تبارك وتعالى وحكمته , أن يمر آدم وزجه بهذا الدرس العملي , والموعظة البالغة الأخيرة , قبل بدء الملحمة البشرية مع الأهواء والشهوات , والشيطان الرجيم وجنوده , إن الذى يدفع عربة أمامه في مسار لها ممهد , وهو يريد إن يطلقها بأقصى سرعة عنده حتى تصل إلى منتهاها ونقطة الوصول المرجوة , فهو يسعى بها أولاً ثم يزيد من سرعته تصاعدياً , ثم يدفعها دفعاً شديداً قبل أن يفلتها لتنطلق في مسارها الممهد لها , فهذا مثال نحاول من خلاله أن نقترب من فهم وتصور الحكمة البالغة من هذا التجربة والدرس الأخير لآدم وزجه , فهي كما ورد في المثال بمثابة الدفعة الأخيرة قبل الانطلاق في المسار الأرضي الممهد والمعد سلفاً كما بينا آنفاً .
ولما ذل آدم عليه السلام وزوجه بأكلهما من الشجرة, نالهما ذل المعصية , وأخرجهما مما كانا فيه آثارها الوخيمة , وأحاطت بهما بعاقبتها ,
فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَ قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ ﴿٣٦﴾
وكان الهبوط المدوي , والسقوط المريع , بالأمر القدسي , وعالج آدم وزوجه مرارة الآسي , وامتلاء عن آخره بالحزن , وفاضت نفسه من الألم وبكى كثيراً كثيراً على ذنبه يعتصره الندم , ولنا أن نتصور مدى إحساس آدم عليه السلام بالفجيعة والخجل من الله تعالى , وقد فقد الأنس الذى كان يشعر به في الجنة بقربه من مولاه , واستولى عليه الحزن , كيف كان ؟ ثم كيف هو الآن؟
فَتَلَقَّىٰٓءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴿٣٧﴾
ولولا أن تداركه ربه برحمته وعظيم فضله لهلك آدم أسفاً وحزناً على ما فرط في جوار ربه ومولاه , إن حزن آدم عليه السلام وآساه لم يكن على فقد متاع الجنة الحسي من مطعم ومشرب سهل ميسور , معاذ الله أن تكون هذه همة من خلقه الله تعالى بيده , وكيف وقد أحسن الله تعالى إليه وكرمه ونشر فضله بين المقربين في الملاء الأعلى , ولكن خجله من ربه ومولاه ,وكيف عصى أمره , في طاعة عدوه المطرود من رحمة الله تعالى , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى الحزن الذى ملكه وأسال دمعه منهمراً , أن فقد جوار ربه ومولاه تعالى , ففقد الأنس والسكينة التي كانت تحيط به وتغشاه , فقد النور الذى يجلله ويهدى خطاه , ألم يحرم من الخطاب , وسماع النداء القدسي إذ ناداه ! تالله لولا أن تداركته رحمة ربه ومولاه , لهلك آدم منذ أن وطأة الأرض قدماه , فيا ترى ماذا كانت هذه " الكلمات" القدسية التي انتشت آدم عليه السلام من همه وكربه الذى اجتواه , لم يخبرنا السياق في الآية الكريمة بسرد هذه الكلمات , ولكن ... اليست هي من كلام رب العالمين ربه ومولاه , فهذا الذى شفاه وقد شرف على الموت حزناً , وهذه الكلمات صارت سلواه في وحشته تهدى في الأرض خطاه , والأنس الذى فقده , عاد إليه متشوقاً , تبرق أساريره , فقد تاب عليه مولاه واجتباه , وقد ملك آدم حبه , فكيف يطيق الحياة بغير كلمات الله ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق