|
أين كنا قبل هذه الحياة الدنيا وكيف كنا ؟ |
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴿٢٨﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴿٢٩﴾
الرسم القرآني لكلمتي (أموتا فأحياكم ) له دلالة بعيدة المغزى , وإشارة لأمر قريب عند التدبر وإعمال الفكر , فنحن كنا أحياء في علم الله تعالى قبل أن يخلق السموات والأرض , منذ أن كتب الله تعالى كل شيء في أم الكتاب , ثم خلقنا الله تعالى نفوساً مجردة قبل أن يأمر الله تبارك وتعالى الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام , وأخذنا منا الميثاق والعهد , ثم تم خلق آدم عليه السلام نفساً وجسداً ثم نفخ ربنا تبارك وتعالى فيه من روحه , ثم أمر الملائكة بالسجود لآدم بعد تعليمه وإعداده لبدء التاريخ البشرى كله بعد ذلك على الأرض , .... الشاهد أننا كنا أحياءً في علم الله تعالى في الكتاب الأول , وكنا بعد خلق أنفسنا في حياة نفسية مجردة أشبه بالموت بالنسبة لحياتنا الدنيا , فنحن في هذه المرحلة قبل نزولنا ومجيئا إلى ساحة الإختبار ودار الإبتلاء , كنا أنفساً مجردة مصورة ذات روح , لذلك نحن ما نأتي للدنيا من العدم مباشرةً , , بل كل نفسٍ جاءت للدنيا هي مخلوقة في علم الله تعالى قبل أن يخلق السموات والأرض , ثم خلقت كنفس روحانية مجردة مصورة ,لأخذ العهد والميثاق , إذاً نحن قبل مجيئنا للدنيا كنا في حياة تشبه الموت بمعنى أننا لم نكن عدماً محضاً , ولو كان موتاً كالذي نموته بعد حياتنا هذه لكان مسبوقاً بحياة كتلك التي نحياها , لذلك فكلمة أموتاً ورسمها يدل على هذا المعنى , فكلمة أمواتاً تعني أننا ما كنا في عدم قبل مجيئنا للدنيا , ورسمها يشير إلى أننا كنا أمواتاً من منظور الحياة الدنيا , ولكنه موتٌ أقرب للحياة من موتتنا الأولى بعد ذلك , لذلك فمن جاء للحياة الدنيا خلقاً وجوديا بجسده وروحه , ثم مات كما يموت الناس , يسميهم القرآن ( موتى ) ومن كان من الأحياء بجسده ونفسه ولكن , فقد الروح الموهوبة له من الله تعالى , ومات قلبه , فهؤلاء يسميهم القرآن (أَمْوَٰتً ) أيضاً لأنهم شبه موتى , وليس موتاً كاملاً , وعندما تخرج منهم نفوسهم يصبحون موتى .
وكلمة ( فأحياكم ) بهذا الرسم المتفرد تؤكد على هذا المعنى , فنحن جئنا من موت ناقص ً وليس موت تاماً كاملاً وأحيانا ربنا تبارك وتعالى في الحياة الدنيا حياة مؤقتة ناقصة غير تامة لأن الموت يتبعها ويزيلها , فالقرآن يعبر عن هذه النقلة من العالم المجرد للنفس إلى الوجود المادي في الحياة الدنيا بهذا الرسم وقد زال من الكلمة حرف الألف , لأنها حياة دنيا , ولأنها ناقصة , ولأنها إلى فناء وزوال .
كما أنها جاءت بالفاء مما يدل على السرعة والتوالي , لأن العالم الذى كنا فيه أمواتاً ـ بمقياس الحياة الدنياـ شعورنا بالزمن محدود جداً , وربما لا ندركه أصلاً , والله تعالى أعلم .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴿٢٨﴾
سبحان الله العظيم , سبحان من هذه كلامه , آية معجزة بكل المقاييس ـ وكل آيات القرآن كذلك ـ فإنها اختصرت حياة البشر وتاريخهم من أولهم حتي آخرهم في بضع كلمات يسيرة , من غير إخلال بمراحل الخلق والتكوين , مع الإشارة لكل مرحلة ـ من خلال المعنى والرسم ـ بما تختص به وتتميز , وتتابعها كما هي خلقاً وتكويناً حتى بداية العالم والكون الجديد في الآخرة , حيث الجزاء الأوفى ,والمصير لإحدى الدارين الجنة أو النار
والآية الكريمة تحمل استفهاما استنكاريا لازعاً ومفجعاً , كيف تكفرون بالله جل جلاله أيها الناس , ولم تكونوا شيئاً مذكورا , ثم منّ الله تعالى عليكم فذكركم فنلتم الشرف الأسمى , وسبقتم سبقاً بعيداً إذ نسبكم إليه سبحانه وتعالى وقال عز من قائل :يا عبادي , وقال سبحانه : يا أيها الناس , وكرمكم وفضلكم على كثير ممن خلق تفضيلاً , وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا ً منه , ولم يهملكم ولم يتركم سدى في العمى والضلالات نهبة ولقطاء للشيطان وجنوده من الجن والأنس , بل أرسل اليكم رسلاً منكم مبشرين ومنذرين , وأنزل معهم الكتاب بالحق والميزان , لتقوم حياتكم الدنيا بالقسط , وبين لكم الآيات وفصل لكم , وضرب الأمثال , ودلكم على كل خير , ونهاكم عن كل شر , وأقام الحجج , وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون , ورزقكم من الطيبات , وأمهلكم في العمر ليتذكر من تذكر , وقد حذركم بطشه وانتقامه ممن عانده واستكبر , وخوفكم من يوم الوعيد , يوم تعودون إليه بلا حول ولا قوة , ولا ولي ولا نصير إلا من أتاه بقلب سليم , وعمل عملاً صالحا سديداً خالصا لوجهه الكريم .
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴿٢٩﴾
الآية الكريمة تشير إلى أن تمام خلق الأرض كلها , وما فيها وما عليها , كل ذلك تم قبل تسوية السموات السبع بزمن بعيد , لأن ( ثم) هنا التي تفصل ما بين إنهاء كل ما يخص الأرض وتمام خلقها بما فيها وما عليها , وبين تسوية السموات سبعاً , تعنى زمناً طويلاً , لأن المتحدث هنا هو الخالق العظيم جل جلاله , وإن من نعم الله تعالى علينا ورحمته أن أخبرنا بهذا التاريخ العريق للكون , وكيف كانت مراحل الخلق , والتكوين ورسمت كلمتا فَسَوَّاهُنَّ و سَمَاوَاتٍ برسم قرآني فريد , , والرسم القرآني له إشارات ومغزى ودلالات عميقة , لا تُكشف إلا للمتدبرين , كلٌ حسب إقباله وطهارته , وفضل الله تعالى قبل كل ذلك , وفوق كل ذلك , والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم , والسماء في أول خلقها كانت رتقاً واحداً , ولما تم تمهيد الأرض وإعداداها لهذا الكائن الجديد " الإنسان" وتزينها بالزينة المناسبة للإمتحان والإختبار , وهى بمثابة القاعدة والأساس للعالم العلوى , وهى البيت الكوني للعامر الجديد " الإنسان" والبيت لابد له من سقف يتناسب معه طولاً وعرضاَ وارتفاعا , وكذلك كان فتم تسوية السقف لهذا البيت الكوني العظيم , كان السقف في البداية سقفاً واحداً مسمطاً , ثم تم فتقها وتسويتها سبع طبقات على مسافات متساوية من بعضها البعض , وبميزان دقيق , وإحكام وإتقان وجمال ورعة وبهاء كما يليق بالخالق العظيم سبحانه جلت قدرته , ووفق حكمته , وبمقتضى علمه المحيط بكل شيء , ورغم كل هذا الخلق الهائل البديع , فهو سبحانه اقرب إلينا من حبل الوريد ,
وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠
بعد إتمام خلق الأرض وإعدادها , ثم تسوية سقفها الكوني كما أشاره الآية السابقة , لم يبقى إلا خلق الكائن الخليفة الذى تم خلق عالمه وكونه وتجهيزه وإعداده له على أحسن ما يكون , صنع الله الذى أتقن كل شيء , ولكن الله تعالى لم يخلق أدم الخليفة وأبا الخلفاء كما خلق المكونات والموجودات بكلمة" كن" , ولكن الله تبارك اسمه وتعالى جده , أراد تشريف وتكريم هذا الخلق الجديد , فخلقه خلقاً خاصاً يدل على العناية والرحمة الكاملة , وأحاطه بالفضل والتخصيص , منذ توجهت إرادته سبحانه لخلقه وتكوينه , فجاء المخلوق الجديد في أحسن تقويم , وأبهى صورة , وأبدع تكوين , في غاية التناسق , وأفضل التقاسيم , معتدل الخلق ليس فيه عيب ولا تشويه , وفطره الخالق العظيم سبحانه على محبته والخضوع له والإقرار بربوبيته , وأن إليه المصير , وزوده بالعلوم والفضائل والعقل السديد , كل ذلك ليعرف فضل ربه سبحانه ويتعرف عليه , ويعبده وحده بلا شريك ولا نديد , وأسبغ عليه نعمه وفضله , وأحاطه بالحفظ والتأييد , ووكل به ملائكته تقوم على رعايته وتسهيل أمره بلا كلل ولا تفريط , وفتح له أبواب التوبة من كل ذنب , وضاعف له الحسنات بأضعافٍ , ووعده بالمزيد , فسبحان الله تبارك وتعالى العظيم , كيف ينسى فضله ؟ّ! كيف ينسى ذكره ؟! كيف يشرك به من ليس له شريك ولم تكن له صاحبةً وليس له وليد؟!..... ثم بعد هذا التكريم في الخلق والتكوين , أراد المنعم سبحانه إظهار علو قدره , ونشر فضله في الملاء الأعلى بين الملائكة المقربين , أولئك الأطهار الأبرار , والجند المجندين لله رب العالمين , خاطبهم الله تعالى خطاب الرحمن الرحيم , خطاباً قدسياً , لمن هم في عبادته آبدين , ويبدو أن الملائكة الأطهار كانوا في شوقٍ لمعرفة من هو صاحب هذا الفضل والتكريم , ليكون خليفة في الأرض لله رب العالمين , فلما علموا أنه خلقاً من غيرهم , أخذتهم دهشة الفوت , وفجاءتهم غيرة الحرمان , من هذا الفضل والتكريم , وهم من الفضل بمكان , ولكنهم أردوا المزيد , فأظهروا العجب والدهشة قولاً , كيف ليس منا نحن عبيدك الآبدون ؟! إذاً سيكون من المفسدين الضالين, ويتنافسون فيها على الدنيا الفانية متهالكين في سفك الدماء على حطامها غير منتهين ؟!
قال الرب الخالق العظيم قولا قدسياً جزلاً فاصلاً يختم المشهد القدسي , وينهي جولة الحوار الرحماني , أنه العليم بكل شيء , سبحانه ليس له مثيل ,والملائكة قد عزرهم مولاهم الحق , إذ تكلموا بقدر علمهم , وما قصروا في بيان شفقتهم على بني أدم , وحرصهم على كل ما يرضي مليكهم ومولاهم الحق , وتنزيهه سبحانه عن هذا الشرك والإفك المبين , والفساد العريض , الذى يترتب على استخلاف هذا الكائن الجديد .
وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنبِءُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴿٣١﴾ قَالُوا سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿٣٢﴾ قَالَ يَٰءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿٣٣﴾ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ اسْجُدُوا لِءَادَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَٰفِرِينَ﴿٣٤﴾
نحن الآن في مشهد جديد من سلسلة مشاهد بدء الخلق والتكوين , وكلها تدور في الملاء الأعلى القدسي , فبعد خلق الكون المؤقت بأجل مسمى ـ الأرض بما فيها والسماء سقفها وزينها , ثم خلق آدم عليه السلام وذريته ـ كأنفس ـ وهو الساكن والمختبر في هذه الأرض الجديدة , ولكن قبل بدء الاختبار , وبدء العد التنازلي وإطلاق آلة الزمن لتحتوي وتحيط بالحياة البشرية بين السماء والأرض , كان لابد من تزويد البشرية بكل المعلومات الضرورية اللازمة لحياتهم ومعاشهم ومعادهم الذي يصيرون إليه , وهذه هي العلوم والمعارف التي تم تلقينها لآدم عليه السلام , وبالتالي أصبحت هذه المعارف كامنةً في بنيه بالقوة والإمكان , ثم تظهر هذه المعارف والعلوم على مدار التقدم البشري على محور الزمان والمكان , وهذا من تمام وكمال وعظيم فضل الله تعالى على الناس , فكل المعارف والعلوم التي ظهرت وتفيأ بظلالها الناس وتمتعوا بآثارها وتنعموا , ليست من خلقهم ولا من بنات أفكارهم وإختراعهم , وإنما هي علوم ومعارف جعلها رب العالمين تبارك وتعالى كامنة في أصل تكوينهم الفطري , وأساس بنائهم العقلي , وهذا التيه والزهو الذى تحياه البشرية في هذه القرون الأخيرة من عمرها الذى قارب النهاية , بسبب تقدم العلوم والمعارف وما يسمى بثورة المعلومات والتكنولوجيا , والذى أدى بكثير منهم للكفر والإلحاد , وانتشرت فيهم مذاهبه وفنونه ومجونه , بسبب ظنهم الفاسد ومعتقدهم الباطل أن ذلك ليس عطاء ومحض فضل من الله تبارك وتعالى , وإنما من خلقهم وإختراعهم المحض , وهذا هو غاية الكفر والجحود الذى دعاهم إليه" شياطين ألأنس والجن , يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه ,فذرهم وما يفترون " كما قال ربنا تبارك وتعالى , ولكن المؤمنين الصادقين من عباد الله تعالى لا يستخفهم ولا يستزلهم , شيء مما يرون من تقدم حضاري وعمراني , لأنهم يعلمون أن كل ذلك بقدر مسبق , ومحض فضل من مولاهم الحق , وأن كل العلوم والمعارف الظاهرة والباطنة ليس لها إلا مصدر واحد وهو الله رب العالمين , لأننا نفهم من هذه الآية الكريمة أن آدم عليه السلام في هذا المشهد إنما يمثل البشرية كلها , في التكليف والتشريف والعطاءات الربوبية , فآدم عليه من الله تعالى السلام هو أصل الصلب البشري الممتد عبر الزمان والمكان كمحور لحياة ذريته وأبنائه , وهذا الصلب الممتد تتناسل منه البشرية , وهو الحامل لكل البيانات والشيفرات الوراثية , كما يحمل المسار الإرتقائي للعقل البشري وأطواره.