بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 30 نوفمبر 2020

هل الجنة التي دخلها آدم عليه السلام هي جنة الآخرة ؟

 


هل الجنة التي دخلها آدم عليه السلام هي جنة الآخرة ؟
هل الجنة التي دخلها آدم عليه السلام هي جنة الآخرة ؟


وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ ﴿٣٥﴾

فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَقُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ ﴿٣٦﴾

فَتَلَقَّىٰٓءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴿٣٧﴾

نرى في الآية الكريمة رسم كلمة يا آدم قد دمج فيها حرف النداء, نفهم منها إشارة لسرعة السكن الذى دخل فيه آدم  , ثم تمة نعمت الله تعالى عليه وشملته رعاية الله تعالى وكلاءته , أن خلق له زوجاً من نفسه ومن جنسه ليسكن إليها وتسكن إليه , فآدم من خلق الله تعالى الذى يسري عليه ناموس الزوجية ولا ينفك عنه , فهو خلق ضعيف ناقص من جهات عدة , ولا تمام له ولا تستقر حياته  إلا بالسكن والإندماج بزوج من جنسه ونفس صفاته وأكثر منه ضعفاً ونقصاً , وليس ذلك تحقيراً لآدم عليه السلام ولا تنقصاً منه , ولكن الله تعالى خلق آدم في أحسن تقويم , وأبهى منظراً , وأحسن صورة ٍ , ولكنه أيضاً ضعيف البنية , رهيف الإحساس , طويل الأمل , له أعداء من خارجه , ومن داخل نفسه , فالضعف محيط بالإنسان , ولا ينفك عنه , لذلك فطر الله تعالى الإنسان على النزوع دوما للإقتران بزوجه والميل إلى النساء كزوجات يسكن لهن , ويأوي إليها من نصب الحياة الدنيا , وتعينه على بلواها , والميل الفطري للجماعة والإئتلاف مع بنى جنسه , وخلق الإنسان بهذا التكوين الضعيف هو مقتضى حكمة الله البالغة , ورحمة بهذا الإنسان المختبر , فهو ذو نوازع شتى وله رغبات وأشواق , وتسكنه الأهواء والشهوات , وهو في وسط ذلك كله يريد الخلاص , ومن بين ثنايا ضعفه يسمو للتمام , ونوازعه تدعوه للطغيان , وتنحو بنحو الربوبية , فلو لم يكن خلق الإنسان  ضعيفاً فقيراً في أصل تكوينه , لا ينفك عنه ذلك أبداً , وهو شاهد على ذلك , لطغى طغيناً كبيراً ولهلك هلاكاً محققا ً لا نجاة منه , وفق مجموع معطيات معادلة خلقه ونشأته والظروف المحيطة به في ساحة الإختبار .

والجنة التي دخلها آدم وزوجه ما هي إلا نموذج مصور من الجنة الحقيقة التي يدخلها المؤمنون في الدار الآخرة , وليست هي جنة الخلود , والفرق بينهما واضح وظاهر , ولا ينبغي الإختلاف عليه , فليس في جنة الخلود إختبار وابتلاء , وليس فيها كافر لعين مثل إبليس , وليس فيها ما يحرم أكله أو شربه , وليس فيها حزناً ولا أسف يصيب أهلها ,  وليس منها خروج أبداً , وهذا كله كان متحققاً في جنة الإختبار هذه التي سكنها آدم وزوجه .  وكان من حكمة الله تعالى البالغة , أن يكون الدرس العملي الأول , والموعظة البليغة , لآدم وزوجه في هذه الجنة "المصورة" من جنة الخلود ليكون الدرس بليغاً , مؤثرا ... فهو وزوجه منعمون مكرمون في هذه الجنة , ولكنه منهىٌ عن هذه الشجرة يحرم عليه مجرد الإقتراب أو اللمس وآدم عليه السلام ما زال بعد يكتشف نفسه , ومازال بعد يحاول أن يؤلف بين نوازعه ونفسه الأمارة بالسوء , وبين روحه الطاهرة المتألقة بجوار ربها ومليكها , ولكن الشيطان الخبيث لم يمهله حتى يملك آدم نفسه , ويسيطر على نوازعه , .. بل بادره الخبيث وهو يعلم حجم الفرصة السانحة له في هذه اللحظة , فآدم عليه السلام  في إرتباك نفسي  , وقد غلبت عليه غفلة عن عدوه اللدود نتيجة شغله بنفسه , والسياق القرآني المعجز , يجعلنا  أمام مشهد مصور كأننا نراه رؤى العين ثلاثي الأبعاد ,  البعد الحركي الظاهر , والبعد النفسي المتواري عنا , والبعد الزمني  , إن القرآن الكريم يصف لنا مجموعة مشاهد مصورة حية من زاويا تصويرية مختلفة , وأبعادها الثلاثية متكاملة , في كلمة واحدة "  فَأَزَلَّهُمَا" ! .... إن الدلالات والإيحاءات والإشارات التي تحملها هذه الكلمة المعجزة ., تمثل قصة كاملة , تامة العبرة , بالغة الحكمة , شاهدةً على ضعف الإنسان وتوقه للخلود , شاهدة على شدة العداوة والبغضاء من عدو الله تعالى إبليس لبني آدم أجمعين .   لم يتم نزول آدم بعد تكريمه وإظهار شرفه بين الملاء الأعلى الكريم , إلى الأرض مباشرةً , ليبدأ البلاء والإختبار , ولكن إقتضت رحمة ربه تبارك وتعالى وحكمته , أن يمر آدم وزجه بهذا الدرس العملي , والموعظة البالغة الأخيرة , قبل بدء الملحمة البشرية مع الأهواء والشهوات , والشيطان الرجيم وجنوده , إن الذى يدفع عربة أمامه في مسار لها ممهد , وهو يريد إن يطلقها بأقصى سرعة عنده حتى تصل إلى منتهاها ونقطة الوصول المرجوة , فهو يسعى بها أولاً ثم يزيد من سرعته تصاعدياً , ثم يدفعها دفعاً شديداً قبل أن يفلتها لتنطلق في مسارها الممهد لها , فهذا مثال نحاول من خلاله أن نقترب من فهم وتصور الحكمة البالغة من هذا التجربة والدرس الأخير لآدم وزجه , فهي كما ورد في المثال بمثابة الدفعة الأخيرة قبل الانطلاق في المسار الأرضي الممهد والمعد سلفاً كما بينا آنفاً .

ولما ذل آدم عليه السلام وزوجه بأكلهما من الشجرة, نالهما ذل المعصية , وأخرجهما  مما كانا فيه آثارها الوخيمة , وأحاطت بهما بعاقبتها , 

فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيۡطَٰنُ عَنۡهَا فَأَخۡرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِۖ وَ قُلۡنَا ٱهۡبِطُواْ بَعۡضُكُمۡ لِبَعۡضٍ عَدُوّٞۖ وَلَكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُسۡتَقَرّٞ وَمَتَٰعٌ إِلَىٰ حِينٖ ﴿٣٦﴾

 وكان الهبوط المدوي , والسقوط المريع , بالأمر القدسي , وعالج آدم وزوجه مرارة الآسي , وامتلاء عن آخره بالحزن , وفاضت نفسه من الألم وبكى كثيراً كثيراً  على ذنبه يعتصره الندم , ولنا أن نتصور مدى إحساس آدم عليه السلام بالفجيعة والخجل من الله تعالى , وقد فقد الأنس الذى كان يشعر به في الجنة بقربه من مولاه , واستولى عليه الحزن , كيف كان ؟ ثم كيف هو الآن؟


فَتَلَقَّىٰٓءَادَمُ مِن رَّبِّهِۦ كَلِمَٰتٖ فَتَابَ عَلَيۡهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ﴿٣٧﴾

ولولا أن تداركه ربه برحمته وعظيم فضله لهلك آدم أسفاً وحزناً على ما فرط في جوار ربه ومولاه , إن حزن آدم عليه السلام وآساه  لم يكن على فقد متاع الجنة الحسي من مطعم ومشرب سهل ميسور , معاذ الله أن تكون هذه همة من خلقه الله تعالى بيده , وكيف وقد أحسن الله تعالى إليه وكرمه ونشر فضله بين المقربين في الملاء الأعلى  , ولكن خجله من ربه ومولاه ,وكيف عصى أمره , في طاعة عدوه المطرود من رحمة الله تعالى , هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى الحزن الذى ملكه وأسال دمعه منهمراً , أن فقد جوار ربه ومولاه تعالى , ففقد الأنس والسكينة التي كانت تحيط به وتغشاه , فقد النور الذى يجلله ويهدى خطاه , ألم يحرم من الخطاب , وسماع النداء القدسي إذ ناداه ! تالله لولا أن تداركته رحمة ربه ومولاه , لهلك آدم منذ أن وطأة الأرض قدماه , فيا ترى  ماذا كانت هذه  " الكلمات" القدسية التي انتشت آدم عليه السلام من همه وكربه الذى اجتواه  , لم يخبرنا السياق في الآية الكريمة بسرد هذه الكلمات , ولكن ... اليست هي من كلام رب العالمين ربه ومولاه , فهذا الذى شفاه وقد شرف على الموت حزناً , وهذه الكلمات صارت سلواه في وحشته تهدى في الأرض خطاه , والأنس الذى فقده , عاد إليه متشوقاً , تبرق أساريره , فقد تاب عليه مولاه واجتباه , وقد ملك آدم حبه , فكيف يطيق الحياة بغير كلمات الله ؟! 

وهذا هو الدرس الذى يقدمه القرآن لكل إنسان على وجه الحياة , من نعمة الطاعة والإجتباء , إلى ذل المعصية والخروج عن أمر الله تعالى حيث الهبوط المتحتم مكانةً وقدرا , وذلاً وانكسارا  , إلى ظلال التوبة وفيئها , وبرد الحياة بعد لهيبها , 

وهذه هي معجزات القصص القرآني , مشاهد حية تطرق الحس طرقاً ليستيقظ , وتجذب العقل بلطفٍ ليتدبر , وتأسر القلب ليرى العبرا , وتملك الوجدان ليمتلئ بهجةً وسروراَ .

ما هي الأسماء التي تعلمها ادم من ربه تعالى ؟

 

ما هي الأسماء التي تعلمها ادم من ربه تعالى ؟
ما هي الأسماء التي تعلمها ادم من ربه تعالى ؟  


        

وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنبِءُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴿٣١﴾

يخبرنا رب العالمين تبارك وتعالى أنه علم آدم عليه السلام الأسماء كلها ... و هذا لعمرو الله مما لا تطيق الكلمات ولا العبارات وصفه ولا رسمه  فأي تكريم وتشريف وتفضيل لآدم ولذريته من بعده  أن يتولى رب العالمين جلاجلاله تعليم آدم بنفسه تعالى المقدسة , ولنا أن نتصور ما مدى سعادة آدم عليه السلام بهذا التعلم القدسي , وهذا الحضور في ساحة القدس , وهذا التلقي المباشر بغير سند ولا أي واسطة ,وقد كان من الممكن أن يبعث الله تعالى ملكاً من الملائكة الكرام مثل جيريل مثلاً عليه السلام ليعلم أدم عليه السلام ما شاء رب العزة سبحانه  ولكن الله تعالى أرد أن يشمل آدم وذريته بمزيد من التشريف والإنعام , بين الملاء الأعلى , فسبحان من أعطانا قبل أن نسأل ,  وكرمنا قبل أن نخلق خلقاً تاماً سوياً  , ولم نك قبل شيئاً .

والأسماء هنا تعنى ـ كما نفهم من الآية الكريمة ـ الأشياء وخواصها وحقائقها, والقوانين والنواميس التي تحكمها, والأسباب وعللها ونتائجها  وكل ما يحتاجه هو وذريته من علوم ومعارف تخص الجواهر والأعراض , ظهرها وباطنها , مما يمثل مؤهلات الخلافة في الأرض , وأساس للإمتحان والإختبار  الذى سيبدأ بعد قليل ,و يبدأ العد التنازلي للزمن الكوني الذى  يحتوى الحياة  البشرية  حتى  منتهاها يوم القيامة . والله تعالى قد خلق آدم معداً ليدرك الأسباب وعللها وجزئياتها , ثم ينطلق منها إلى النتائج  والحقائق الكلية , بناءً صاعداً متدرجاً  , يحمل أساس النهضة والعمران البشرى خلال المسار الزمني  , وهذا كله كان من الغيب الذى لم يطلع عليه أحد من قبل , وأختص المولى عزوجل به آدم عليه السلام , لذلك لما تم سؤال الملائكة الأطهار عن هذه الأسماء ـ وهى ما  سبق بيانه ـ كان السؤال بصيغة أنبئوني . وليس أخبروني , وهو طبعاً سؤال تعجيزي وليس إستفهامي   , وورد السؤال بهذه الصيغة  , يدل على أن هذه الأسماء كانت من الغيب الذى لم يكشفه الله تعالى لأحد قبل آدم عليه السلام  , لأن كلمة "أنبئوني " ـ حسب ورودها في القرآن ـ إقترنت بالأمور الغيبية , فهي من الجذر اللغوي " نبأ  " وكلمة النبي مشتقة منها , والنبي يخبر عن الله تعالى بالأمور الغيبية , وهو الواسطة بين الله تعالى وبين عباده , لذلك  قالت الملائكة  بصوت واحد بكل خشوع وإنكسار وضراعة , سبحانك  سبحانك ,    لا علم لنا مطلقاً  إلا ما علمتنا ,

 

قَالَ يَٰءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿٣٣﴾وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ اسْجُدُوا لِءَادَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَٰفِرِينَ﴿٣٤﴾

ثم جاء الأمر الإلهي  بعد  إحضار  آدم  لهذا الحضور من الملائكة  , لآدم أن يظهر  ما تعلمه من العلوم الزكية , التي تلقها مباشرة من رب البرية سبحانه , فانطلق آدم  يبين  لهم ما لم يكونوا يعلمون  , وكان  هذا  من  أول الدروس العملية لآدم عليه السلام ولذريته من بعده  , تبين فضل العلم وشرفه , إذ أمر من لا يرد  أمره , ولا معقب لحكمه , الملائكة الأطهار أن يسجدوا  لمن شرف وتزكى بالعلم , واعتلى مكاناً  عالياً , وقدراً رفيعاً  بالحكمة الموهوبة له من مولاه الحق  جل جلاله  , فسجدوا  ... هكذا بلا توانٍ ولا تأخر  , وما كان لهم غير ذلك , ولا يتأتى منهم إلا الطاعة المطلقة  .

لماذا أُمر الملائكة بالسجود لآدم , وما معنى حضور إبليس معهم  ؟

لكننا نملح شيئاً عجيباً في الآية الكريمة  , وهو حضور كائن من خلق الله تعالى لهذا المشهد مع الملائكة  , مع انه ليس منهم , إنه إبليس  ,ـ  ولم يكن إبليس يوما واحد من الملائكة ـ,  فهو من الجن الذين فسقوا عن أمر ربهم , والجن مخلوق من نار كما أخبرنا رب العزة تعالى , والذى يبدو لنا من خلال هذه الآية الكريمة وغيرها من الآيات التي تتناول هذا المشهد من جوانب متعددة  أن إبليس هو المقصود بالأساس من الأمر بالسجود لآدم عليه السلام ,وليس الملائكة الأطهار المقربون , لأنهم لا يعصون ربهم طرفة عين , ويفعلون ما يأمرون , ولكن لماذا تم إصدار الأمر القدسي للملائكة مع إبليس وهو المقصود أساساً بالأمر ؟

والذى يبدو لنا من ذلك والله تعالى أعلم , أنه تم إحضار إبليس لهذا الملاء من الملائكة الأطهار ومن ثم إصدار الأمر القدسي لكل الحضور , مع حضور آدم عليه السلام , حتى لا يكون لإبليس حجة في عصيانه وطغيانه ,لأن الملائكة الذين هم أفضل منه خلقاً وتكويناً وأجمل منه منظراً وتصويراً , وأقرب منه مكاناً وقدراً عند ذي العرش العظيم , وأقوى منه وأشد بأساً وتنكيلاً , سارعوا في تنفيذ الأمر بلا توانٍ , فهذا أدعى ليكون هو أسرع في الإستجابة والطاعة , أما ما هو وجه وجود إبليس في السماء مع الملائكة , وهو ليس منهم إطلاقاً , وإنما هو من الجن ؟ , فهذا ما لم تشير إليه الآية الكريمة , ولا الآيات الأخرى , وقد قيل في ذلك في كتب التفاسير أقوال مختلفة , ولكن لو كان هذا مهما لنا لبينه لنا رب العزة تبارك وتعالى , والأقوال المذكورة في التفاسير ليس عليها دليل , فالأولى بنا الإعراض عما أعرض عنه ربنا تبارك وتعالى ,ولا نقف ما ليس لنا به علم , ... ونرى أن الآية الكريمة مرت مروراً سريعا على مسألة عصيان إبليس وطغيانه وكفره وضلاله , والذى يبدو لنا من ذلك , أن المشهد هنا في الآية الكريمة , هو مشهد إظهار التكريم والتفضيل لأدم عليه السلام , والإحتفاء به  وسط هذا الجمع الكريم من المقربين , فهذا هو المقصود الأساسي من هذا المشهد القدسي , ولهذا لم يلتفت السياق الكريم  للآية لكفر إبليس وإبائه السجود  ومرت عليه سريعاً , وكأنه غير موجود أصلاً , تحقيراً له وتبيان هوان شأنه بين هذا الجمع الكريم , فلا عبرة به ولا كرامة , فليذهب إلى الجحيم غير مأسوف عليه وعلى أمثاله من الطغاة المجرمين من أتباعه إلى يوم الدين . وهذا من عجائب السياق القرآني وإعجازه المتعدد الوجوه والنظائر , إذ أننا لما عشنا مع الآية الكريمة في مشهد التكريم والإحتفاء بنا نحن البشر في صورة أبينا آدم عليه السلام , لا يخرج بنا السياق عن هذا الهدف , ولا يربكنا  في مفاجآت أخرى , ولا  يعرج بنا في آفاق غير أفقه المقصود أساسا , لذلك إبليس وطغيانه وعصيانه , يتوارى سريعا في السياق , ولا نكاد نشعر به , إلا لمحة خاطفة لا تؤثر على جلال المشهد القدسي وبهائه , فسبحان من هذا بيانه , فاللهم لك الحمد على هذا الإفضال والتكريم والإنعام علينا بلا أي سابقة عمل لنا ولا سؤال .

الأحد، 29 نوفمبر 2020

أين كنا قبل هذه الحياة الدنيا وكيف كنا ؟

 

أين كنا قبل هذه الحياة الدنيا وكيف كنا ؟
أين كنا قبل هذه الحياة الدنيا وكيف كنا ؟


كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴿٢٨﴾ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴿٢٩﴾

الرسم القرآني لكلمتي (أموتا فأحياكم )  له دلالة بعيدة المغزى , وإشارة لأمر قريب عند التدبر وإعمال الفكر , فنحن كنا أحياء في علم الله تعالى قبل أن يخلق السموات والأرض , منذ أن كتب الله تعالى كل شيء في أم الكتاب , ثم خلقنا الله تعالى نفوساً مجردة قبل أن يأمر الله تبارك وتعالى الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام , وأخذنا منا الميثاق والعهد , ثم تم خلق آدم عليه السلام نفساً وجسداً ثم نفخ ربنا تبارك وتعالى فيه من روحه , ثم أمر الملائكة بالسجود لآدم بعد تعليمه وإعداده لبدء التاريخ البشرى كله بعد ذلك على الأرض , .... الشاهد أننا كنا أحياءً في علم الله تعالى في الكتاب الأول , وكنا بعد خلق أنفسنا في حياة نفسية مجردة أشبه بالموت بالنسبة لحياتنا الدنيا , فنحن في هذه المرحلة قبل نزولنا ومجيئا إلى ساحة الإختبار ودار الإبتلاء , كنا أنفساً مجردة مصورة  ذات روح  , لذلك نحن ما نأتي للدنيا من العدم مباشرةً , , بل كل نفسٍ جاءت للدنيا هي مخلوقة في علم الله تعالى قبل أن يخلق السموات والأرض , ثم خلقت كنفس روحانية مجردة مصورة ,لأخذ العهد والميثاق  , إذاً نحن قبل مجيئنا للدنيا كنا في حياة تشبه الموت بمعنى أننا لم نكن عدماً محضاً , ولو كان موتاً كالذي نموته بعد حياتنا هذه لكان مسبوقاً بحياة كتلك التي نحياها , لذلك فكلمة أموتاً ورسمها يدل على هذا المعنى , فكلمة أمواتاً تعني أننا ما كنا في عدم قبل مجيئنا للدنيا , ورسمها يشير إلى أننا كنا أمواتاً من منظور الحياة الدنيا , ولكنه موتٌ أقرب للحياة من موتتنا الأولى بعد ذلك , لذلك فمن جاء للحياة الدنيا خلقاً وجوديا بجسده وروحه , ثم مات كما يموت الناس , يسميهم القرآن  ( موتى ) ومن كان من الأحياء بجسده ونفسه ولكن , فقد الروح الموهوبة له من الله تعالى , ومات قلبه , فهؤلاء يسميهم القرآن  (أَمْوَٰتً )  أيضاً لأنهم شبه موتى , وليس موتاً كاملاً , وعندما تخرج منهم نفوسهم يصبحون موتى .                          

وكلمة ( فأحياكم ) بهذا الرسم المتفرد  تؤكد على هذا المعنى , فنحن جئنا من موت ناقص ً وليس موت تاماً كاملاً وأحيانا ربنا تبارك وتعالى في الحياة الدنيا حياة مؤقتة ناقصة غير تامة لأن الموت يتبعها ويزيلها , فالقرآن يعبر عن هذه النقلة من العالم المجرد للنفس إلى الوجود المادي في الحياة الدنيا بهذا الرسم وقد زال من الكلمة حرف الألف , لأنها حياة دنيا , ولأنها ناقصة , ولأنها إلى فناء وزوال .

كما أنها جاءت بالفاء مما يدل على السرعة والتوالي , لأن العالم الذى كنا فيه أمواتاً ـ بمقياس الحياة الدنياـ شعورنا بالزمن محدود جداً , وربما لا ندركه أصلاً , والله تعالى أعلم .

 

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَٰتًا فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴿٢٨﴾

سبحان الله العظيم , سبحان من هذه كلامه , آية معجزة بكل المقاييس ـ وكل آيات القرآن كذلك ـ فإنها اختصرت حياة البشر وتاريخهم من أولهم حتي آخرهم في بضع كلمات يسيرة , من غير إخلال بمراحل الخلق والتكوين , مع الإشارة لكل مرحلة ـ من خلال المعنى والرسم ـ بما تختص به وتتميز , وتتابعها كما هي خلقاً وتكويناً حتى بداية العالم والكون الجديد في الآخرة , حيث الجزاء الأوفى ,والمصير لإحدى الدارين الجنة أو النار

والآية الكريمة تحمل استفهاما استنكاريا لازعاً ومفجعاً , كيف تكفرون بالله جل جلاله أيها الناس , ولم تكونوا شيئاً مذكورا , ثم منّ الله تعالى عليكم فذكركم فنلتم الشرف الأسمى , وسبقتم سبقاً بعيداً إذ نسبكم إليه سبحانه وتعالى وقال عز من قائل :يا عبادي , وقال سبحانه : يا أيها الناس , وكرمكم وفضلكم على كثير ممن خلق تفضيلاً , وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعا ً منه , ولم يهملكم ولم يتركم سدى في العمى والضلالات نهبة ولقطاء للشيطان وجنوده من الجن والأنس , بل أرسل اليكم رسلاً منكم مبشرين ومنذرين , وأنزل معهم الكتاب بالحق والميزان , لتقوم حياتكم الدنيا بالقسط , وبين لكم الآيات وفصل لكم , وضرب الأمثال , ودلكم على كل خير , ونهاكم عن كل شر , وأقام الحجج , وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون , ورزقكم من الطيبات , وأمهلكم في العمر ليتذكر من تذكر , وقد حذركم بطشه وانتقامه ممن عانده واستكبر , وخوفكم من يوم الوعيد , يوم تعودون إليه بلا حول ولا قوة , ولا ولي ولا نصير إلا من أتاه بقلب سليم , وعمل عملاً صالحا سديداً خالصا لوجهه الكريم .  


هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّىٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴿٢٩﴾

الآية الكريمة تشير إلى أن تمام خلق الأرض كلها , وما فيها وما عليها , كل ذلك تم  قبل تسوية السموات السبع بزمن بعيد , لأن ( ثم) هنا التي تفصل ما بين إنهاء كل ما يخص الأرض وتمام خلقها بما فيها وما عليها , وبين تسوية السموات سبعاً , تعنى زمناً طويلاً , لأن المتحدث هنا هو الخالق العظيم جل جلاله , وإن من نعم الله تعالى علينا ورحمته أن أخبرنا بهذا التاريخ العريق للكون , وكيف كانت مراحل الخلق , والتكوين  ورسمت كلمتا فَسَوَّاهُنَّ  و سَمَاوَاتٍ  برسم قرآني فريد , , والرسم القرآني له إشارات ومغزى ودلالات عميقة , لا تُكشف إلا للمتدبرين , كلٌ حسب إقباله وطهارته , وفضل الله تعالى قبل كل ذلك , وفوق كل ذلك , والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم , والسماء في أول خلقها كانت رتقاً واحداً , ولما تم تمهيد الأرض وإعداداها لهذا الكائن الجديد " الإنسان" وتزينها بالزينة المناسبة للإمتحان والإختبار , وهى بمثابة القاعدة والأساس للعالم العلوى , وهى البيت الكوني للعامر الجديد " الإنسان"  والبيت لابد له من سقف يتناسب معه طولاً وعرضاَ وارتفاعا ,  وكذلك كان فتم  تسوية السقف لهذا البيت الكوني العظيم , كان السقف في البداية سقفاً واحداً مسمطاً , ثم تم فتقها وتسويتها سبع طبقات على مسافات متساوية من بعضها البعض , وبميزان دقيق , وإحكام وإتقان وجمال ورعة وبهاء كما يليق بالخالق العظيم سبحانه جلت قدرته , ووفق حكمته , وبمقتضى علمه المحيط بكل شيء , ورغم كل هذا الخلق الهائل البديع , فهو سبحانه اقرب إلينا من حبل الوريد , 

    

وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ  أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٣٠

بعد إتمام خلق الأرض وإعدادها , ثم تسوية سقفها الكوني كما أشاره الآية السابقة , لم يبقى إلا خلق الكائن الخليفة الذى تم خلق عالمه وكونه وتجهيزه وإعداده له على أحسن ما يكون , صنع الله الذى أتقن كل شيء , ولكن الله تعالى لم يخلق أدم الخليفة وأبا الخلفاء كما خلق المكونات والموجودات بكلمة" كن" , ولكن الله تبارك اسمه وتعالى جده , أراد تشريف وتكريم هذا الخلق الجديد , فخلقه خلقاً خاصاً يدل على العناية والرحمة الكاملة , وأحاطه بالفضل والتخصيص , منذ توجهت إرادته سبحانه لخلقه وتكوينه , فجاء المخلوق الجديد في أحسن تقويم , وأبهى صورة , وأبدع تكوين , في غاية التناسق , وأفضل التقاسيم  , معتدل الخلق ليس فيه عيب ولا تشويه , وفطره الخالق العظيم سبحانه على محبته والخضوع له والإقرار بربوبيته , وأن إليه المصير , وزوده بالعلوم والفضائل والعقل السديد , كل ذلك ليعرف فضل ربه سبحانه ويتعرف عليه , ويعبده وحده بلا شريك ولا نديد , وأسبغ عليه نعمه وفضله , وأحاطه بالحفظ والتأييد , ووكل به ملائكته تقوم على رعايته وتسهيل أمره بلا كلل ولا تفريط , وفتح له أبواب التوبة من كل ذنب , وضاعف له الحسنات بأضعافٍ , ووعده بالمزيد , فسبحان الله تبارك وتعالى العظيم , كيف ينسى فضله ؟ّ!  كيف ينسى ذكره ؟! كيف يشرك به من ليس له شريك ولم تكن له صاحبةً وليس له وليد؟!..... ثم بعد هذا التكريم في الخلق والتكوين , أراد المنعم سبحانه إظهار علو قدره , ونشر فضله في الملاء الأعلى بين الملائكة المقربين  , أولئك الأطهار الأبرار , والجند المجندين لله رب العالمين , خاطبهم الله تعالى خطاب الرحمن الرحيم , خطاباً قدسياً , لمن هم في عبادته آبدين  , ويبدو أن الملائكة الأطهار كانوا في شوقٍ لمعرفة من هو صاحب هذا الفضل والتكريم , ليكون خليفة في الأرض لله رب العالمين , فلما علموا أنه خلقاً من غيرهم , أخذتهم دهشة الفوت , وفجاءتهم غيرة الحرمان , من هذا الفضل والتكريم , وهم من الفضل بمكان , ولكنهم أردوا المزيد , فأظهروا العجب والدهشة قولاً , كيف ليس منا نحن عبيدك الآبدون ؟! إذاً سيكون من المفسدين الضالين, ويتنافسون فيها على الدنيا الفانية متهالكين في سفك الدماء على حطامها غير منتهين ؟!   

قال الرب الخالق العظيم قولا قدسياً جزلاً فاصلاً يختم المشهد القدسي , وينهي جولة الحوار الرحماني , أنه العليم بكل شيء  , سبحانه ليس له مثيل ,والملائكة قد عزرهم مولاهم الحق , إذ تكلموا بقدر علمهم , وما قصروا في بيان شفقتهم على بني أدم , وحرصهم على كل ما يرضي مليكهم ومولاهم الحق , وتنزيهه سبحانه عن هذا الشرك والإفك المبين , والفساد العريض , الذى يترتب على استخلاف هذا الكائن الجديد . 

وَعَلَّمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَٰئِكَةِ فَقَالَ أَنبِءُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ ﴿٣١﴾ قَالُوا سُبْحَٰنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿٣٢﴾ قَالَ يَٰءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَٰوَٰتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿٣٣﴾ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ اسْجُدُوا لِءَادَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَٰفِرِينَ﴿٣٤﴾

نحن الآن في مشهد جديد من سلسلة مشاهد بدء الخلق والتكوين , وكلها تدور في الملاء الأعلى القدسي , فبعد خلق الكون المؤقت بأجل مسمى ـ الأرض بما فيها والسماء سقفها وزينها , ثم خلق آدم عليه السلام  وذريته ـ كأنفس ـ وهو الساكن والمختبر في هذه الأرض الجديدة  , ولكن قبل بدء الاختبار , وبدء العد التنازلي  وإطلاق آلة الزمن لتحتوي وتحيط بالحياة البشرية بين السماء والأرض , كان لابد من تزويد البشرية  بكل المعلومات الضرورية اللازمة لحياتهم ومعاشهم  ومعادهم الذي يصيرون إليه , وهذه هي العلوم والمعارف التي تم تلقينها لآدم عليه السلام , وبالتالي أصبحت هذه المعارف كامنةً في بنيه بالقوة والإمكان , ثم تظهر هذه المعارف والعلوم على مدار التقدم البشري على محور الزمان والمكان , وهذا من تمام وكمال وعظيم فضل الله تعالى على الناس , فكل المعارف والعلوم التي ظهرت وتفيأ بظلالها الناس وتمتعوا بآثارها وتنعموا , ليست من خلقهم ولا من بنات أفكارهم وإختراعهم ,  وإنما هي علوم ومعارف جعلها رب العالمين تبارك وتعالى كامنة في أصل تكوينهم الفطري , وأساس بنائهم  العقلي , وهذا التيه والزهو الذى تحياه البشرية في هذه القرون الأخيرة من عمرها الذى قارب النهاية , بسبب تقدم العلوم والمعارف وما يسمى بثورة المعلومات والتكنولوجيا , والذى أدى بكثير منهم للكفر والإلحاد , وانتشرت فيهم مذاهبه وفنونه ومجونه , بسبب ظنهم الفاسد ومعتقدهم الباطل أن ذلك ليس عطاء ومحض فضل من الله تبارك وتعالى , وإنما من خلقهم وإختراعهم المحض , وهذا هو غاية الكفر والجحود الذى دعاهم إليه" شياطين ألأنس والجن , يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه ,فذرهم وما يفترون " كما قال ربنا تبارك وتعالى , ولكن المؤمنين الصادقين من عباد الله تعالى لا يستخفهم ولا يستزلهم , شيء  مما يرون من تقدم حضاري وعمراني , لأنهم يعلمون أن كل ذلك بقدر مسبق , ومحض فضل من مولاهم الحق , وأن كل العلوم والمعارف الظاهرة والباطنة ليس لها إلا مصدر واحد وهو الله رب العالمين , لأننا نفهم من هذه الآية الكريمة أن آدم عليه السلام في هذا المشهد  إنما يمثل البشرية كلها , في التكليف والتشريف والعطاءات الربوبية , فآدم عليه من الله تعالى السلام هو أصل الصلب البشري الممتد عبر الزمان والمكان كمحور لحياة ذريته وأبنائه , وهذا الصلب الممتد تتناسل منه البشرية , وهو الحامل لكل البيانات والشيفرات الوراثية , كما يحمل المسار الإرتقائي للعقل البشري وأطواره.


هل الحياء صفة من صفات الله تعالى؟

 



إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَٰسِقِينَ﴿٢٦﴾ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن  بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴿٢٧﴾

الحياء من شمائل الفضائل وكريم الأخلاق  , وهو من صميم الفطرة وقرين الإيمان , ومشتق من الحياة , ومؤشر صادق وصحيح للرصيد الروحي عند الإنسان , لذلك أكثر الناس حياءً هم الأنبياء والرسل , كما ورد في القرآن الكريم عن حياء النبي صلى الله عليه وسلم ( ....  إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ  ....) الآية 53 الأحزاب 

  ثم الصالحون  الأمثل فالأمثل , حتى لا يبقي منه شيئاً عند من لا رصيد روحي وإيماني عندهم وهم المشركين , والشرك نجاسة معنوية قلبية ,  وموات نفسي  , وخواء روحي  , فمن أين يأتيهم الحياء ولذلك القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قائلاً : "  الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴿٣﴾"

فهذا في حقنا نحن البشر , لأننا ناقصون وخاطئون ولنا عورات حسية ومعنوية , فالحياء لنا زينةً وستر وفضيلة  , أما بالنسبة لله جل في علاه , فتعالى ربنا وتقدس عن ذلك كله  , لذلك الحياء – بهذا المعني - ليس من صفات الله تعالى ولا من أفعاله , وأسماء الله تعالى وصفاته لا نتلقها إلا من القرآن الكريم  حصراً  , فالذات الإلاهية وصفاتها  , لا نتلقى عنها خبراً ولا وصفاً , ولا إثباتاً ونفياً إلا بهذا السند الزكي الشريف العالي , النبي صلى الله عليه وسلم  عن جبريل عليه السلام عن رب العزة ذي الجلال والإكرام , وهذه السند متنه القرآن وحمله إلينا , ليس بيننا وبين رب العزة تبارك وتعالى إلا رسولين من أفضل الرسل البشريين والملائكيين  , وتولى ربنا تبارك وتعالى بنفسه المقدسة حفظ هذا المتن الشريف العظيم  , فهو لا يأتيه الباطل من أي ناحية  , ولا ريب فيه أنه كلام رب العالمين , أنزله بعلمه وبالحق المبين , والقرآن ينفي عن رب العالمين تبارك وتعالى,  الحياء بهذا المعنى المعروف عندنا , وليس معنى ذلك أنه تعالى مادام  لا يوصف بالحياء  أنه موصوف بضدّه  تعالى ربنا عن ذلك , لأن الحياء وضده لا يليق ولا يصح في حق الله تبارك وتعالى ,   والمعنى في الآية الكريمة  , أن الله تبارك وتعالى  يصرّف ويبين – يضرب _ الأمثال _ وهى الأشباه والنظائر_  في القرآن الكريم  , بقدر حاجة الناس لذلك  , ويجعلها كنزاً ونبعاً فيضاً  بالعلوم والحكم والفوائد إلى يوم القيامة  , فالمثل سواء كان ببعوضة –وهي من الهوان بمكان -  أو بما هو أكبر من ذلك وأرقى في الخلق والتقدير , فإن حكمة الأمثال القرآنية وقيمتها العلمية والتربوية لا تنقص ولا تتردى عن  سموها وجلالها وإمتداد آثارها النفسية والعقلية في هداية من شاء الله تعالى لهم الإهتداء  بها وبسببها , فالبعوضة وما تحتها حتى الذرة  وما فوقها حتى العرش واللوح  , كلها من خلق الله تعالى وله تدين بالوحدانية , في الربوبية والألوهية , والأسماء والصفات  , طوعاً وكرهاً , فلا فرق بالنسبة لله تعالى في سوق المثل وكشف المعاني والدلالات والعبر , ببعوضة مرة , وبعنكبوت مرة , وبرجل , وامرأة ,  في مرات آخري  , فإن الله تعالى يسوق ويضرب الأمثال بما شاء وكيف شاء , ويصرفها كيف يشاء , ويهدى بها من يشاء , ويجعلها سبب في ضلال من يشاء من عباده , كل ذلك تبعاً للحكمة البالغة , والقدرة الكاملة , والعلم الشامل المحيط .والأمثال في القرآن  الكريم لها شأن عظيم , وإهتمام القرآن بها وتكراراها في مواضع كثيرة منه يدل على ذلك , ولأنها من مفاتيح العلوم  , وأبواب للمعارف , وبهجة للناظرين في كتاب الله تعالى , وتحدى قائم للأولين والآخرين , فإن فهمها وإستخراج العبر منها , وقفاً على المتدبرين ذوى العلم والعقل السديد , الذين علموا وأيقنوا أنه من عند الله تعالى صدقاً وعدلاً , لا ريب فيه وبه إهتدوا  وفيه حياتهم وسلواهم  , وبلاغهم إلى مولاهم  الحق , فلا إله  إلا الله , ما طابت  الدنيا إلا بالقرآن وما أطقنا العيش فيها لولا القرآن , ولولاه ما زكى منا أحد ولا بلغنا ولا كنا شيئاً مذكوراً , فلا إله إلا الله  فكيف  لنا أن نوفى نعمة القرآن حقها وشكرها  , اللهم عفوك وغفرانك , ورحمتك بنا وقد أحاط بنا العجز و التقصير والتفريط , ولا ملاذ لنا ولا ملجأ  إلا إليك .

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَٰسِقِينَ﴿٢٦﴾ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّـهِ مِن  بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّـهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ ﴿٢٧﴾

  الآية الكريمة تكشف لنا بجلاء إنقسام الناس في مرآة القرآن الكريم إلى قسمين  , مؤمن به ,وكافر به , وذلك من خلال استقبال الفريقين  للقرآن الكريم , وما فيه من منهج قويم  ونهى عن كل ذميم , فمن آمن به كلٌ من عند الله , وتبعه واحتكم إليه  وخضع له ولم يتقدم بين  يديه بمنهج آخر , ولا بحكم آخر , ولا برئ  ولا اجتهاد  , فهذا هو المؤمن في حكم الله تعالى  وله البشرى وحسن مآب , والعكس  بالعكس , فمن تلقى القرآن بشك أو رد  أو تردد في تحكيمه في كل شأن وأمر , أو قدم عليه غيره أياً كان هو , أو يزعم أنه غير كافٍ بنفسه  لكل ما يعنينا من أمور الدنيا والدين , وبالتالي  يحتاج إلى غيره , للتتم  حجته على العالمين  , ويبلغ سلطانه الأولين والآخرين , فهو فاسقٌ كافرٌ مبين , فهؤلاء بينهم وبين القرآن حجاباً مستوراً  وهو عليهم عمى , وعن الصراط ناكبون , لا يفقهون منه شيئاً ولا يسمعون ولا يعقلون , ولقد أسمعهم الله تعالى كلامه , فتولوا وهم معرضون عنه منهاجاً وحكماً عربياً قيماً , فحرموا من وروده والسقيا من شرابه , وطُردوا من جنته ورياضه , وهبطوا من سمائه وعليائه وصحبة أهله وأولياءه , إلى واد سحيق مظلم في أسفل سافلين , ترتاع فيه الشياطين وكل أفاك أثيم  الذى كان يسمع آيات الله تتلى ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها , كأن في أذنيه وقراُ , فهو في العذاب الأليم , وحسبنا الله ونعم الوكيل , نلوذ به ونلجأ إليه ونستغيث به ونتضرع أليه من هذا الحال وذلك المصير .

والرسم القرآني الفريد يرسم هذا المعنى السابق بيانه  - وما خفى  عنا  من المعاني والدلالات أعظم وأكثر وأجل – في كلماته  , فنرى كلمة الفاسقين بغير ألف مرسومة ,ونرها إشارة إلى سرعتهم وتهوكهم في الغواية والضلال والصد عن سبيل الله تعالى , رغم  أن الهداية بين أيدهم , والقرآن يتلى عليهم يناديهم ويفتح لهم أبواب التوبة ويزكيهم , فأبوا إلا الإعراض والنكران , فعاملهم الله تعالى بما يستحقون , جزاءً وافقاً , كما يشير رسم الكلمة  لسفاهتهم وحقارة شأنهم عند الله تبارك وتعالى , فهو تعالى لا يبالى بهم , ولا يعجزونه  , وهو غنى عنهم وعن العالمين , كما نراها إشارة إلى عجيب أمرهم , وإختلال موازينهم , وفساد طريقتهم , إذ كيف يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير  , واعرضوا عن كتاب ربهم وهديه  , وذهبوا في كل طريق بددا يرجون الهدى من غير منبعه , , فنقضوا العهد مع الله تعالى , الذى واثقهم به , واشهدهم على أنفسهم  , فأقروا بالعبودية له والإفتقار إليه , ثم هم يصدفون عن منهجه وهديه المنزل , وشرعه المحكم  , إلى زبالة العقول , وكُناسة الآراء والتصورات والشرائع الوضعية ,فقطعوا أنفسهم عن كل سبب للهدى وكل طريق للنجاة  , وكل فرصة للتوبة والإنابة , وقطعوا الطريق بيهم وبين  فطرتهم, وقطعوا كل أسباب الخير والبركة عن أنفسهم بسبب فسقهم ونقضهم ميثاق ربهم , فلإيمان والعلم الصالح , يصل العبد بخالقه سبحانه ويفتح الطريق  أمام فطرته لتعمل في الإتجاه الصحيح لتتوافق مع فطرة الكون , فيتصل بالأسباب الكونية للبركة والنماء والخيرات الظاهرة والباطنة , والعكس بالعكس  فالكفران والذنوب والآثام , تفسد الحرث والنسل , في البر والبحر . 

قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿٩٦﴾ الإعراف

ولأن خسارة الفاسقين الذين نقضوا العهد مع الله تعالى , واتجهوا بالأسباب المسخرة لهم , إلى ما تمليه عليهم أهوائهم وأغراضهم العاجلة القريبة , لأن خسارتهم خسارة جسيمة وحقيقةً لا ريب فيها , وواقعة حالاً وماءلاً , ما داموا ناكبون عن الصراط , جاءت جملة (أُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَٰسِرُونَ) بهذه الصياغة وهذا الرسم لكلمة خاسرون لتدل على هذا المعنى ,ولتدل على عدم شعورهم بهذا الخسران المبين الفادح الذى لم يبق لهم أهلاً ولا نفسا يوم القيامة , رغم تمتعهم بملذات الدنيا الفانية , التي نقضوا العهد من أجلها وبسببها ! فهم ساعون في الخسران ليلاً ونهاراَ , وبكل جهدهم والأسباب المتاحة المسخرة لهم !


هل ماء المطر نتيجة تبخر ماء البحار أم ينزل من السماء مباشرةً ؟

 

هل ماء المطر نتيجة تبخر ماء البحار أم ينزل من السماء مباشرةً ؟
هل ماء المطر نتيجة تبخر ماء البحار أم ينزل من السماء مباشرةً ؟



كما أن الماء ينزل من السماء نفسها وليس هو نتيجة تبخر ماء المحيطات كما يزعم الجاهلون الضالون  , فمن أين لهم العلم بذلك ,,, وصدق الله تعالى ( إن الكافرون إلا في غرور ) 

فماء المطر موجود في السماء نفسها  , وما تنزل منه قطرة إلا بإذن ربها وما تنزل إلا بوزن معلوم ووقت لا يفوت لمكان في الأرض لا تخطئه ولا تتخطاه  , وكذلك البذور التي تنبت منها الأشجار والثمرات وأنواع الفواكه والخضروات وغيرها مما يأكل الناس والأنعام هي أيضاً مما ينزل من السماء  مع المطر أو بدونه  قبله أو بعده  فلله الحمد ربنا وسعنا برحمته وعظيم منه وفضله , ثم الذين كفروا بربهم يعدلون  وينسبون كل ذلك للطبيعة العمياء والصدفة الصماء  , تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً وخير شاهدٍ على ذلك الجبال العالية الخضراء والمساحات الشاسعة العامرة بالشجار وأنواع الزروع والثمار وحشائش الأرض , ومرتع واسع لكل أنواع الدواب والوحوش والطير مما هو أمم أمثالنا  , كل ذلك موجود في أنحاء الأرض , شاهد على الربوبية القائمة والراعية لكل ذرة في هذا الوجود , هو سبحانه أنشائها ولسنا المنشئون , وهو الذى أنزل بذرتها من السماء ولسنا المنزلون , وسقاها بماء من السماء عذب فرات متاعاً لنا ولأنعامنا , فبأي حديث بعده يؤمنون !  أما السحاب فهو الناقلات العملاقة والحوامل الكونية للماء والبذور , إذ تعمل بإذن ربها لتوزيع هذا الغيث والفضل والإنعام حسب ما أمرت به وما يتم تحديثه من برنامج عملها  كل ذلك في نظام محكم بديع  فتبارك الله رب العالمين .   ولذلك نرى كلمة الثمرات في الآية الكريمة برسم قرآني فريد لتدل وتشير إلى المعنى السابق , فإن هذه الثمرات التي نأكل منها وتبهرنا بأشكالها وألوانها ومذاقها المختلف , ولا نكاد نشعر بكل تلك الإعدادات والتجهيزات والعوامل المسخرات بداية ً من الملائكة المدبرين لكل ذلك بأمر الله تعالى , والسماء التي فيها خزائن الخير والغيث والنماء والأرزاق ويسكنها خلق كرام بررة لا يعصون الله ما أمرهم , والأرض وما فيها من خزائن تفيض من الثروات وأسباب النماء والتحضر مثل الحديد وسائر  المعادن والبترول المكتشف حديثاً  كل ذلك تم إعداده وتقديره مسبقاَ من خلال برنامج كوني عظيم مكتوب في اللوح المحفوظ .  نحن نأكل من كل الثمرات ولا نكاد نشعر بهذا الأمد البعيد من الإعداد والترتيب حتى وقت وقوع هذه الثمرات في أيدينا , وكثير من الناس لا شعور لهم البتة بشيء من ذلك , ومنهم من يأكل ما يشتهى ولا يذكر اسم المنعم على طعامه , والكافرون ينسبون كل ذلك للطبيعة العمياء والصدف الصماء , إلا عباد الله المخلصين ,  لذى نرى ختام الآية معبراَ عن حال الناس مع نعم الله تعالى التي تتوالى عليهم في كل وقت وحين  , ثم لا يشكرون عليها المنعم بها ويتعرفون منها كرمه وإنعامه بغير إستحقاق وهو الغني عنهم سبحانه  فيقول  تعالى   (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّـهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) 

   وختام الآيات في القرآن الكريم متتم للمعنى والحكم الذى تحمله الآيات  دليلاً ومرشداً لنا في فهم المعنى المحمول بالآية وتأكيده  , ومانع من دخول معنى آخر غير مقصود في الآية , فالآية الكريمة تحمل أمر إلهياً علوياً مقدساً بعبادته تعالى وحده لا شريك له , وذلك بالإعتقاد أولاً أن الله تعالى وحده هو المستحق للعبادة , فهو الذى خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى وخلق كل شيء وهو بك شيء عليم , فالآية الكريمة تسوقنا من خلال آيات الله تعالى في الكون إلى توحيد المنعم وتوجيه الشكر له وحده والحمد , فمتى نظر الإنسان من حوله ومن فوقه ومن تحته وجد كل ذلك شاهد على الخالق العظيم المتفرد والإله الحق ذي الجلال والإكرام , وكل من اعمل عقله وجال بفكره واستمع لفطرته , أيقين بوحدانية  الحق وكماله المطلق في أسمائه وصفاته وأفعاله  , فكيف به بعد ذلك يشرك به أحداً سواء في العبادة والشعائر والنسك , أو الولاية والمحبة والدينونة , أو تلقي المنهج والتشريع والأحكام , إن المسلم من استسلم بكليته لمولاه الحق ولا يعتقد عقيدةً ولا يتمثل منهجاَ ولا يتلقى تشريعاً وحكماً إلا من مولاه الحق وذلك من خلال ما أنزله الله تعالى في القرآن الكريم  حصراً ,  إن المسلم الحق ليس له (مصادر) تشريعية ولا قانونية ولا منهجية  , بل هو مصدر واحد من إله واحد وهو كتاب الله تعالى , الذى لا يأتيه الباطل من أي جهة وليس فيه إختلاف وليس فيه تناقض , وليس هو مصدر رئيس وتوجد معه مصادر فرعية كما يزعمون من يدعون الإسلام ! 

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٢٣﴾

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴿٢٤

  هذا التحدي قائم إلى يوم الدين لكل أفاك أثيم , يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصرُ مستكبراً  كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً  , فأين    المتخرصون الذين يزعمون أن القرآن غير كافٍ لهم كمصدر للتشريع والأحكام والمنهج التام وليس يحتاج لغيره ليكمله أو يقيده أو يخصصه أو يطلقه أو ينسخه وتلك هي الطامة الكبرى والقسمة الضيزى .

إلى كل هؤلاء ومن على شاكلتهم يأتي هذا التحدي والتهديد الشديد والوعيد الذى يخلع القلوب وتشيب له الرؤوس ,هلم فأتونا بشيء مثله في كماله وجلاله وسموه وشموله ومطلق فوق الزمان والمكان وليس فيه إختلاف وليس فيه أهواء البشر وقصور أحكامهم واختلاف مذاهبهم وتعارض وجهاتهم وأغراضهم وفساد نياتهم وإرادتهم  , محال ثم عين المحال أن تكونوا قادرين على تأتوا بشيء مما تزعمون أنه يقضي على القرآن أو ينسخه أو يخصصه أو يحتاج إليه القرآن لتتم حجته وتبلغ رسالته للعالمين , وتكمل نقصه في زعمكم البغيض , ويكون خالياً من كل ما سبق شرطه !  وادعو من إستطعتم من علمائكم ومشايخكم الذين اتخذتموهم أرباباَ مع الله تعالى وليجتمعوا ويجتهدوا قدرهم وليلقوا بما يزعمون أنه يقضي على القرآن ويخصصه أو ينسخه من سنةٍ أو إجماعٍ أو إستحسان وما عندكم من هذه الآلهة المزعومة  , فليأتونا بسورةٍ من مثله بشرط القرآن , إنكم مختلفون من قبل أن تجتمعوا , ولن تتفقوا لو إجتمعتم بل يزداد تشرذمكم وخلافكم , والله وتالله لن تجتمعوا أبداً على كلمة سواء حتى تؤمنوا بالله وحده وكتابه كمنهج وتشريع تام لا يحتاج إلى غيره . أما السنة الصحيحة _ وصحتها بميزان القرآن _ فهي موضحة ومبينة ومفسرة للقران ولا تناقضه ولا تخالفه ... بل خادمة له , خاضعة له والرسول محمد عليه صلوات الله وسلامه عليه لا يملك ولا يمكنه مخالفة الوحى الذى أوحاه الله إليه المتمثل في القرآن الكريم  ولكنه يستطيع بفضل الله تعالى ومنزلة النبوة أن يستنبط منه فوائد وأحكاماً ويستخرج منه درراً وكنوزاً من العلوم والمعارف الصحيحة الصائبة .


وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا ۙ قَالُوا هَـٰذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ ۖ وَأُتُوا بِهِ   مُتَشَابِهًا ۖ   وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ۖ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٢٥﴾

ثم بعد التهديد الشديد والوعيد الأكيد لمن  كان في ريب من كفاية هذه القرآن وقيامه بأمر الدين والدنيا , وأنه تبياناً لكل شيء كما قال الله تعالى وهو أصدق القائلين , منهج قويم لكل المؤمنين به ألي يوم الدين يهديهم إلى مرضات الله تعالى وإلى صراطه المستقيم , فهؤلاء المؤمنين بهذا عقيدةً وقولاً وعملاً , وليس لهم من دونه ملتحدا , له خضعوا وبه آمنوا وعليه إجتمعوا وإليه دعوتهم وديدنهم وأخلصوا دينهم لله تعالى , فهؤلاء لهم البشرى في الكتاب الذى آمنوا به وحده معصوما من الهوى والخطأ والاختلاف والتناقض , مطلق الدلالة عبر الزمان والمكان , يبشرهم ربهم بإيمانهم بكتابه وحده ولا يشركون معه كتاباً آخر , وتلقوا المنهج منه وحده وعملوا الصالحات التي أمرهم بها ربهم فعلاً , واجتنبوا ما نهاهم عنه ,  بالنعيم المقيم في جنات النعيم ,نسأل الله من فضله العظيم .

فأهل الجنة في نعيم دائم , لا يتشابه فيه شيء أبدا , حتى الثمرة الواحدة من الفاكهة تتميز عن الأخرى من نفس النوع في المذاق والطعم , فهم دائماً في مزيد , وكل ما يقدم لهم من متاعها  جديد لم يذوقوه من قبل رغم تشابه الظاهر , 

وهذا لأنهم أصلحوا في الدنيا بواطنهم , بإخلاص الدين لله تعالى , وإستقامة سرائرهم على تقوى الله تعالى  , فجعل الله تعالى لهم في الجنة مفاجئات من النعيم والملذات  لا تنتهى , فباطن الجنة خيرها من ظاهرها , وفيه ملذات ومتع مكنونةٍ لا تتكرر ولا تفنى ولا تبيد ولا تتشابه في حقيقتها ومذاقها ,  أبد الآبدين ,  فهم في شغل دائم فاكهون , ليس فيه ملل ,  وفى كل آنٍ جديد , وهم دائماً في إرتقاءٍ ومزيد , لهم فيها أزواج مطهرة ليس لهم مثيل في الدنيا ولا شبيه , وتمتعهم بهذه الزوجية , بكيفية وهيئة لا نعلم عنها شيئاً , ولم ترد  في القرآن الكريم عبارة  النكاح , في ما يخص  الزوجية  بالحور العين في الجنة , كما وردت كثيراً فيما يخص الزوجات المؤمنات في الدنيا  , وهى من المفاجئآت  التي أعدها الله تعالى لأهل الجنة , قال تعالى : (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين , جزاءً بما كانوا يعملون ) السجدة


السبت، 28 نوفمبر 2020

هل الأرض كروية متحركة أم مسطحة ثابتة ؟

 

هل الأرض كروية متحركة أم مسطحة ثابتة ؟
هل الأرض كروية متحركة أم مسطحة ثابتة ؟



الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَٰشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَٰتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّـهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٢

يذكرنا ربنا تبارك وتعالى ببعض آياته ونعمه علينا نحن العبيد الفقراء إليه , فقد جعل لنا هذه الأرض فراشا ممهداً لسعينا وخلافتنا عليها , ففي هذه الأرض ساحة الامتحان والإختبار  ولذلك مهدها الله تعالى لهذا الأمر  .

ونرى في رسم القرآن لكلمة فراشاً إشارة ودلالة على أن الأرض مفروشة فراشاً لا عهد لنا به ولا يمكننا الإحاطة به فهي مفروشة مسطحة أمامنا لكنها ليست كالفراش الذى نعهده وننام عليه , فالفرق كبير وهائل بين فرشنا المعروفة وفراش الأرض لأننا لا نستطيع أن نحيط بها ولا بأبعادها  فهو واسعة كما وصفها خالقها تعالى ولا يمكننا مهما أوتينا من علم وقوة أن ندرك آخرها أو نحيط بها علما  , ولا نستطيع النفاذ من أقطارها , فهي لنا كفاتاً أحياءً وأمواتاً , والذين يزعمون أن الأرض كرة تسبح في الفضاء  هم في ضلالٍ مبين قد عطلوا حواسهم وعقولهم وصدقوا ترهات الملاحدة المجرمين من عبدة الشيطان اللعين 

إن المجرمين الملاحدة من اليونان كفيثاغورث ومن على شاكلته من عبدة النجوم والأعداد ومن بعدهم مثل كوبرنيك وجاليليو ممن إبتدعوا هذه الإفك المبين والضلال المستبين ومن تبعهم في عبادة الشمس والشيطان اللعين يهرفون بما يشبه الجنون فبعد أن جعلوا الأرض كرة إضطروا إلى القول بالجاذبية كناموس يمسك السموات والأرض من الزوال مضاهاة لله تعالى  الذى يقول جل جلاله ( إن الله يمسك السموات والأرض  أن تزولا .... ) الآية , ثم إزدادوا غياً إلى غيهم وضلالاً إلى ضلالهم فزعموا أن للإرض حركات فضائية متعددة عجيبة في نفس الوقت حركة حول نفسها وآخرى حول الشمس ـ معبودهم ـ وثالثةً في إتجاه قلب المجرة  ورابعة  للمجرة بأهلها في فضائهم المزعوم والذى هو عندهم غير متناهي ولا محدود !!! كل ذلك طبعاً بسرعات فضائية حسب زعمهم , ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى به نستعين وبه نستجير من هذه الضلالات والقول الأثيم , كل ذلك بلا برهان أو دليل من كتاب الله تعالى ولا عقل صحيح سليم .

وأكثر الناس على هذا الدين ويتلونه كأنهم الحق المبين من رب العالمين , وأعرضوا عن كتاب ربهم الذى نزل بالحق وبالحق ينطق بلسان عربي مبين ( والأرض مددناها  ... ) (والله جعل لكم الأرض بساطاً...) ( أفلا ينظرون إلى ....... وإلى الأرض كيف سطحت )! 

فلا عجب أن نرى الناس استخفهم أعداء الله تعالى وصاروا ينكرون نداء فطرتهم وصوت العقل والضمير وما تراه العيون وما تحسه الحواس من إستقرار الأرض وثباتها وتمددها في أفق مستوى ليس فيه إنحناء كروى  ولا تجرى بعباد الله تعالى في فضاء غير موجود أصلاً  ., لأن الله تعالى تفضل علينا وأخبرنا عن كل شيء يعنينا من  هذه الكون المتقن البديع , ولم يتركنا هملاً بلا هدىٍ ولا دليل , وفضائهم المزعوم هذه غير موجود أصلاً  لأن ربنا تبارك وتعالى جعل السماء بناءً محكماً ليس فيه شقوق ومهاوى , وليس فيه تفاوت بين أجزائه وأنحائه  , فالله تعالى صنعها بميزان دقيق وإحكام وروعة وبهاء منظراً , كما يليق بجلاله وقدرته وعلمه وحكمته البالغة وبما أن السماء بناءً فكل بناء له أبواب محكمة وقد ذكرت أبواب السماء في آيات القرآن الكريم  , قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴿٤٠﴾)   وقال تعالى : ( فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴿١١﴾)


العبودية أصل تكوين الإنسان وفطرته

 


العبودية أصل تكوين الإنسان وفطرته
العبودية أصل تكوين الإنسان وفطرته


الآية الكريمة تحمل أول نداء في القرآن لكل الناس نداء عالمي أممي يدعوهم إلى أهم المهمات وأولى الأولويات لتحقيق أعظم الغايات وعلة خلق الأرض والسموات وسبب وجود وحياة الإنسان , إنها عبادة رب العالمين الإله الحق المبين لا شريك له الذى تنزه عن النظير والشبيه وتعالى عن الشريك والنديد وتقدس في عليائه بلا معين ولا ظهير , الكل إليه فقير ... فقر ذات وصفات وأحاط بهم العدم من كل الجهات وكل ذر ة فيهم ومنهم مفتقرة إليه تعالى في الإيجاد والإمداد, ومنع العدم المحيط بهم من النفاد إليهم ليبلغوا الغاية من خلقهم وتتحقق فيهم مشيئته تعالى غير ظالم لهم  , ولأن الأنسان من طبيعته النسيان والخطأ فالله تعالى جده وتبارك اسمه ينادى الناس بهذه النداء ليذكرهم بالعهد الذى عاهدوه والميثاق الذى واثقوه , قبل النزول والمجيء إلى ساحة الإختبار وزمن الإبتلاء , وجعل فيهم ـ في أصل التكوين ـ فطرة الإيمان بالربوبية ,  وصيرورتهم واضطرارهم وتسربلهم بالعبودية له تعالى لا محيص من ذلك ولا إنفلات مهما علو في الأرض واستكبروا فيها , وطغوا في الأرض وظنوا أنهم إستقلوا بأمرهم وحكموا بأهوائهم فيما لا يملكون ونسو أو تناسوا أنهم عبيد الله تعالى وأنهم والعدم سواء إلا أن الله تعالى يمسكهم بقدرته وعظيم رحمانيته من أن يزول وجودهم وتضمحل كينونتهم , حتى يبلغ الكتاب أجله ويبلغ كل منهم ما قدر له وما كتب عليه  حتى تحق الحقائق يوم القيامة ويأذن الله تعالى بزول السموات والأرض بنفخة في صور الموت والخراب .... ثم تتبعها نفخة آخري في صور الحياة والنشأة ألآخرة , فيخلق الله جلت قدرته كوناَ جديداَ معمراَ تليداَ مسبحاً بحمد رب العالمين خاضعاَ ذليلاَ ليس فيه كافراَ ولا شيطاناَ مريدا .

 يدعونا ربنا تعالى تقدس اسمه إلى عبادته وحده بلا شرك ولا شركاء ولا شفعاء يقربونا إليه زلفى لم يأذن بهم مولنا تبارك اسمه , يأمرنا بإخلاص العبودية والدينونة له تعالى وحده لا شريك له .

 ولتحقيق معنى العبادة ينبغي أن نعلم أن العبودية في الإنسان  وصف ذات , فهي صفة متأصلة في أصله وتكوينه فطره الله تعالى عليها لا ينفك عنها ولا تنفك عنه 

ولذلك كان لابد من الإشهاد وأخذ الميثاق على كل نفس بعد خلقهم مباشرةً كأنفس مجردة وقبل الأمر للملائكة بالسجود لآدم , فإن الله تبارك وتعالى ما كان ليخلق الإنسان مفطورا على العبودية ثم يأت به للدنيا - ساحة الإختبار وزمن الامتحان- قبل أن يعرفه معبوده الحق ومربوبه الذى لا شريك له , فإن ذلك يتنافى من كمال رحمانيته وعظيم عدله وتمام نعمته ومقتضى حكمته , بل كان لابد من ذلك حتى لا تكون للعباد على الله حجة أو معذرة , قال تعالى 

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ ﴿١٧٢﴾ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴿١٧٣﴾ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴿١٧٤﴾)الإعراف

واقتضى ذلك بعثة الرسل وإنزال الكتب وتتابع الرسلات والنذر لتذكير الناس بالعهد الذى عاهدوا الله عليه والميثاق الذى واثقوه , وهكذا تمت الحجة وقامت البينة وانقطعت المعاذير وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً واستبان سبيل الله ومنهجه القويم في الإستمساك بهدى القرآن الكريم حجة الله تعالى على العالمين وصراطه المستقيم  ومن أعرض عنه هلك في سبل الشيطان اللعين ولا عزاء له يوم الدين ولا مفازة له من العذاب الأليم . أقول ... لما كانت العبودية في أصل تكوين الإنسان حكمة بالغة من الله تعالى وقهر مطلق ونعمة سابغة  أن فطرنا على العبودية والربوبية له تعالى لا لغيره ولا لأحد سواه لا لشمس ولا قمرٍ ولا نجم ولا ملك ولا نبي ورسول ولا أنسٍ ولا جانٍ , وكل إنسانٍ بعد ذلك على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره , فمنهم كافرٌ ومنهم مؤمنٌ شاكر .

ولهذا نرى الإنسان عبر تاريخه في ساحة الإختبار وزمن الامتحان إما عابدٌ لله جلا جلاله وإما عابدٌ لغيره من مخلوقات الله تعالى التي سخرها للإنسان الجاحد الكفور الجاهل الظلوم , فهو لا ينفك عن صفة العبودية ولا تنفك عنه مهما طغى واستكبر وتأله وتجبر على عباد الله , إن المستكبرين من عباد الله تعالى هم الذين أغواهم الشيطان اللعين وأنساهم ذكر العهد والميثاق ونفخ فيهم من روحه النجسة الخبيثة فصاروا له عابدين ومن جنده المجندين  وله موالين من دون مولاهم الحق المبين  فخرجت منهم الروح الطاهرة  النقية التي وهبهم الله تعالى إياها لأنها لا تجتمع مع روح الشيطان اللعين في جوهر واحد  كما لا يجتمع الليل والنهار ولا الظلمات والنور .وأكثر الناس خلطوا عبادتهم لله تعالى بعبادة الطاغوت ,  قال تعالى : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿١٠٣﴾ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴿١٠٤﴾ وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴿١٠٥﴾ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴿١٠٦﴾ ) 

وقال تعالى: (  وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّـهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴿٣٦﴾

وعبادة الطاغوت تكون في أشكال وصور شتى من العبادة من دعاء واستغاثة وتضرع وسؤال الحاجات الغيبية وطلب الشفاعات ورجاء المنفعة وسعة الرزق والالتجاء لها لدفع الضر . أو التنسك لغير الله تعالى بالصلاة أو الصيام أو الذبح أو الطواف والتقديس وإلتماس البركات فكل من ادعى ذلك لنفسه أو لغيره من العبيد فهو طاغوت معتدٍ لحده وظالم لنفسه بتعرضه لمقت الله وسخطه , كاذب لنفسه ومخادعٌ للناس الذين يستخفهم بباطله ويستتبعهم بجهلهم وغباوتهم وغوايتهم . أو تلقى التشريعات والتصورات والدساتير والقوانين الملزمة من الطاغوت  بغير إذن وسلطان من الله تعالى وهو وحده صاحب الحق في كل ذلك , فإن التشريعات والمنهج والتصورات والموازيين والقيم والأخلاق وحدود المعاملات ومرجعية القضاء والحكم  كل ذلك لا يكون إلا لله تعالى  , وكل ذلك مبين في كتاب الله تعالى ومنهجه القويم الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد-  قال الله تعالى ( ...وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴿٨٩﴾)

لذلك فإن حقيقة الإيمان وأصل الإسلام عبادة الله تعالى وحده إعتقاداَ وقولاَ وعملاَ والكفر بكل عبادة صرفت لغير الله تعالى وكل 

\معبودٍ إتخذه الناس ظلماً وجهلاً والبراءة التامة من الشرك بكل صوره القديمة والحاضرة وممن أشرك بالله تعالى ومن شركائهم أجمعين إلا عباد الله المخلصين ممن عبدو بغير رضاً ولا علم لهم بذلك . 

فالإسلام يدعو الناس للرجوع للفطرة والوفاء بالعهد والميثاق وإخلاص الدين كله لله تعالى وأرسل الله تعالى الرسل وأنزل معهم الكتب رحمة منه تعالى بالعباد وشفقة عليهم وتشريفاً لهم ورفعاً لذكرهم وأفاض عليهم من نعمه وأحاطهم بواسع فضله وسخر لهم ما في السموات والأرض جميعاً منه بلا أي إستحقاقٍ منهم لذلك ولا غناء لهم عن قيوميته وربوبيته طرفة عين ولا أقل منها , فهم في واسع فضله ونعمته يرفلون وفى عافيته وحلمه يغدون ويرحون , وتحت قهره وإحاطته يتصرفون تصرف المالك فيما لا يملكون  حقيقةَ, ومشيئته نافذةً فيهم رغم مشيئتهم ولا يعلمون . 


كيف نفهم الأمثال في القرآن الكريم ورمزيتها؟

 


كيف نفهم الأمثال في القرآن الكريم ورمزيتها؟
كيف نفهم الأمثال في القرآن الكريم ورمزيتها؟



أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَٰلَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُوامُهْتَدِينَ﴿١٦

هذا الوصف حقيقي وليس مجازى , فليس في القرآن مجاز  , إن القرآن كلام الله تعالى وفيه علم الله تعالى وآثار أسمائه وصفاته تبارك وتعالى  وكلام الله تعالى مطلق رسماَ ولفظاَ ومعنى , ينطق بالحق وبالحق نزل ويهدى للحق وإلى صراط مستقيم.

إن كلام الله تعالى مطلق من الزمان والمكان وفوق الزمان والمكان , لذلك لا يمكن أن نفهم القرآن ونستخرج كنوزه ودرره إلا إذا تلقيناه في كل مرة نتلوه مطلقاَ من الزمان والمكان من حيث عمق التأويل وأفق المعنى .... 

وهذا هو السبب الرئيس في هجر القرآن كمنهج حياة  وشريعة تحكم الشعوب والأفراد .. ويا حسرةَ على العباد الذين آتاهم الله الكتاب المبين والمنهج القويم والصراط المستقيم ثم هم معرضون عنه شريعة ومنهاجا وأصبح مجرد بركة وترانيم على السنة القراء دون فهم وبلا وعى  . 

فتجد في كتب التفسير هذه آيات نزلت في فلان ... وهذه آيات نزلت في أهل الكتاب ...وهذه آيات منسوخة  ... وهذه متشابه غير مفهومة ولا معنى لها ... وهكذا تم جعل القرآن عضين  يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه  !! 

وقد رسمت كلمة الضلالة بحذف الألف وكذلك كلمة تجارتهم  لأن الوصف في الآية الكريمة من منظور عالم الحقائق الذى تنتمى إليه النفس وتطل عليه إذا تغلبت على أهوائها وشهواتها واستشرفت إلى السمو الروحي

لذلك تأتى هذه الكلمات بهذا الرسم لتصف وترسم صورة هؤلاء من منظور عالم الحقائق المجرد من الزمان والمكان 


أوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِي ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَٰعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ ‏مُحِيطٌ بِالْكَٰفِرِينَ﴿١٩﴾َ‏

يكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ ‏شَيْءٍ قَدِيرٌ﴿٢٠﴾‏

مضى المثل الناري لهذا الصنف من الناس وهذا هو المثل المائي  , والأمثلة في القرآن الكريم رموز تحمل من ‏المعاني والحكم والعبر ما لا يحيط به التصور ولا تبلغه العقول مهما تجردت , وما يعقل ظاهرها إلا العالمون بالكتاب ‏العاكفون عليه ينهلون من درره وأحكامه فيزدادون خشية لله تعالى ورهبة وإنابة , وما يبدو لنا في هذا المثل ‏تشبيه لحياة هؤلاء النفسية , فهم يعيشون في عالم موحش مظلم بارد تصفر فيه الريح ويزمجر فيها الرعد , والبرق ‏يكاد يختطفهم بصواعقه المهلكة , وهم في غاية الضعف والذلة إذ لا يملكون إداء هذه القوى العاتية الجبارة إلا أن ‏يضعوا أصابعهم في أذناهم ويغمضون أعينهم أملاَ أن يخفف ذلك من هلعهم ويبعد شبح الموت - المحيط بهم – عنهم   ‏‏.. فهم في هذا المثل الرائع كالأنعام إذا رأت الخطر أقبل عليها تدفن رأسها في الرمال بدلا من أن تتخذ الوسائل ‏المناسبة للنجاة من الهلاك المحقق القادم عليها ... وهكذا أصحاب هذه المثل فهم في حياتهم الدنيا معرضون عن ‏الإيمان النافع والتوحيد الخالص ويتكلمون بألسنتهم يزعمون الإيمان وينتسبون لكل مكرمة وفضيلة وهم منها خواء  , ‏ورغم المصائب التي تصيبهم في طريقتهم هذه ورغم العبر التي يسوقها الله تعالى إليهم والآيات والنذر إلا أنهم لا ‏يعقلون ولا يفقهون شيئاَ فهم سكرى بحب الدنيا والعلو فيها وطلب متاعها الفاني ويبذلون في سبيل ذلك مهجهم ‏وغاية جهدهم  وليس للآخرة عندهم إلا فتات وقتهم وجهدهم إن سمحت بذلك أهوائهم بذلك وبقى فيهم قصد ونية , ‏فهم عند المصائب جامدون متبلدون لا يتدبرون ولا يتعظون  , وفى حال الصحة والعافية وإقبال الدنيا عليهم يمشون ‏فيها كأنهم مخلدون فيها فرحين ومستبشرين بغير الحق فطال أملهم وفسد كل عرق فيهم , وماتت حواسهم السمع ‏والبصائر فما عادت تنفعهم بشيء ولا تغنى عنهم شيئاَ , ولو شاء الله تعالى لأخذ هذه الحواس المعطلة التي ‏يستخدموها في معصية الله تعالى ليلاَ ونهاراَ , لأنها معطلة فقط في طاعة الله تعالى وطلب مرضاته ولكنها تنبض ‏بالحياة في غير مرضاته تعالى ,, بل في ما يسخطه تعالى عليهم ... لكن صفة الحليم لله تعالى تعمل عملها وتسع ‏مثل هؤلاء الضالين المدعين للإيمان وتؤخر عنهم العذاب إلى حين .. فالله تعالى بهم عليم ومن ورائهم محيط وقائم ‏عليهم بما كسبوا  والله على كل شيء قدير. ‏

                          

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿٢١﴾

تبدا السورة الكريمة من هذه الآية فصلاَ جديداَ من الدعوة بأساليب متنوعة فيها التعليم والتنوير والترغيب والترهيب , والوعد والوعيد , والتذكير والتهديد , وفى نفس الوقت في دعوة تامة وشاملة وبأسلوب جزل موجز بليغ قد بلغ الغاية وأحاط بالمعنى المراد وأفاض في تنويع الخطاب وجلل الخطب وحذر من مغبة  العناد وشوق إلى دار القرار وبهجة النفوس وقرة العيون والخلد الذى لا يزول ولا يحول كل ذلك في كلمات وجيزة وجمل قصيرة ولكنها ترسم لوحة عظيمة , تمتد عبر الزمان البعيد من بداية الخلق والتكوين , تنادى الآية الكريمة الناس أجمعين بهذا النداء الحنين وهذا التكريم إذ يناديهم رب العالمين وفى هذا من الإفضال والإنعام ما لا يطيق الناس شكره ولا يقومون ببعضه ولو إجتمعوا لذلك أجمعين بلسان واحد في صعيد واحد إلى يوم الدين , فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته .


الجمعة، 27 نوفمبر 2020

كيف نفهم الأفعال المنسوبة لله تعالى في القرآن الكريم كالمخادعة والإستهزاء والمكر

 

عقيدة التجسيم والتشبيه والمماثلة هي سبب ضلال وكفر كل الأمم الغابرة من الوثنين وكذلك اليهود والنصرى


اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي  طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ ١٥

 ينبغي أن نفهمها في إطار القاعدة القرآنية الفذة ( ليس كثله شيء وهو السميع البصير ) فهي لا تشبه أفعالنا لا من قريب ولا من بعيد  , إنها كما تليق بجلال الله تعالى وهى من كمال قدرة الله تعالى وقيوميته وعدله , لذلك هي في حق الله تعالى من صفات الكمال والجلال وليس النقص , فكما أننا لا ندرك كنه الذات فكذلك لا ندرك كنه الصفات وأفعال الله تعالى هي من آثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا تبارك وتعالى , وهذا الباب مما لا مدخل فيه للعقول والأفهام  , فلا قياس ولا مشابه , إنما نؤمن بها إجمالا في إطار التقديس والتنزيه والجلال لذى العزة والجبروت تعالى , فنثبتها كما وردت في كتاب ربنا تعالى في سياقها على محمل التنزيه والتقديس بلا تشبيه المجسمة الزنادقة من هذه الأمة واليهود والنصرى والأمم الغابرة ,

عقيدة التجسيم والتشبيه والمماثلة هي سبب ضلال وكفر كل الأمم الغابرة من الوثنين وكذلك اليهود والنصرى

ومن ينظر في تاريخ العقائد يرى أن عقيدة التجسيم والتشبيه والمماثلة هي سبب ضلال وكفر كل الأمم الغابرة من الوثنين وكذلك اليهود والنصرى  , وهذا الكفر الذنيم قد سرى في هذه الأمة المحمدية وإنتشر إنتشار النار في الهشيم , فجرت عليهم وفيهم سنة الأولين , وتفرقوا كما تفرق الأولون  وإختلفوا من بعد ما جاءتهم البيانات من ربهم وفيهم كتاب الله تعالى ناطق بالحق المبين , فسنة الله تعالى في الأولين والأخيرين أن من أعرض عن هدى الله تعالى المنزل على أوليائه من الأنبياء والمرسلين وطلب الهدى في غيره وإستبدل الذى هو أدنى بالذي هو خير أن يضل ضلالاَ مبينا  , وأن يختلفوا ويتفرقوا شيعاَ وأحزاباَ ويتمزقوا في الأرض متحاربين.  ولا يمكننا النجاة من هذا الضلال المبين إلا بتوحيد المصدر والمشرب الذى نستقى منه التصور والإعتقاد والمنهج الذى يهدينا الصراط المستقيم  , وهو كتاب الله تعالى حصراَ وقصراَ لا نحيد عنه ولن نجد من دونه ملتحدا فهو حبل الله المتين ومنهجه القويم لمن أراد الحق والدار الآخرة ولقاء الله تعالى ,  لذلك ينبغي ألا نصف الله تعالى ولا نسميه إلا بما ورد في الكتاب المبين , ولا نفتأت على الله تعالى ولا نتقدم بين يديه , ولا نقترح عليه ولا نحكم عقولنا في ما لا طاقة لنا به , ونلزم أدب الأنبياء والمرسلين والذين أنعم عليهم رب العالمين الذين لم ينجرفوا مع تيار التجسيم العاتي , ولم  ينحرفوا إلى طريقة المعطلة الزنادقة المتقدمة بين يدي رب العالمين ,ولا المتأولين المحرفين لأسمائه وصفاته تعالى وهم يظنون أنهم أحكم طريقة وأهدى سبيلا ممن لا ينحوا نحوهم !

  نرى كلمة ( طُغْيَٰنِهِمْ) في الرسم القرآني الفريد مختلفة عن الرسم الإملائي  , وهذا الإختلاف يدل على معنى عميق من ناحية الدلالة والإشارة ,ليس متعارضاً مع معناها الظاهر , ولكن وراء هذا المعنى الظاهر عمق وبعد دلالي وبياني لا يدركه إلا القاصدون له المتدبرون المؤمنون بشموله وإحاطته بكل شيء علماً وتبياناً , وتمامه واستغناءه عن كل ما سواه , وهيمنته على كل كلام آخر وكل كتاب وكل فكر وكل تصور وعلوم عقلية أو تجريبية ,  فهم بدايةً اعتقدوا أن الإيمان مجرد كلمة تقال بلا أي التزام اعتقادي وعملي , فهم يحاولون مسخ الإسلام من منهج حياة شامل لمن آمن به إلى مجرد عقيدة باهتة لا أصل لها في القلب , ولا أثر لها على الجوارح من ناحية الفعل أمراً ونهياً 

  ثانياً : هذا التصور الفاسد للإيمان قابل هوىً وشهوات في قلوبهم , فتمكن منها حتى أصبح مرضاً في قلوبهم , فنتج عن مرض قلوبهم فساد أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً , " ألا إن في الجسد مضغة إذا صلُحت  صلُح الجسد كله , وإذا فسدت فسد الجسد كله , ألا وهى القلبُ" كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , فزادهم الله تعالى مرضاً إلى مرضهم بسبب إعراضهم عن التذكرة ورفضهم النصيحة من المؤمنين , وإصراهم على أعمالهم الفاسدة التي يصدون بها عن سبيل الله تعالى , وعتوا وبالغوا في العتو والكبر على عباد الله المؤمنين أن وصفوهم بالسفهاء ,  أي لا رأى لهم ولا دراية ولا نظر في الأمور وعواقبها مثلهم !                                                   

فانقلبت أمورهم رأساً على عقب فأصبح المعروف منكراً ,. والمنكر معروفاً , فإذا لقوا المؤمنين زعموا أنهم أكمل منهم إيماناً وأهدى طريقةً , وإذا إجتمعوا في مجالسهم - مجالس اللهو واللعب -سخروا من المؤمنين وضحكوا عليهم ومن حالهم , ووصفوهم بما لا يليق من الأوصاف والألقاب التي تناسب فساد عقيدتهم ومرض قلوبهم , وهذا المرض هو حب العاجلة والسعي لها والفرح بها إذا أقبلت والحزن عليها إذا أدبرت , ونسوا الآخرة وأهوالها  , فسدوا على أنفسهم كل أبواب الهدى والنجاة من العذاب الأليم يوم القيامة , وقد وصفهم القرآن في آيات كثيرة  منها قول تعالى :     (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ﴿٢٩﴾ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴿٣٠﴾ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَىٰ أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ ﴿٣١﴾ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَـٰؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴿٣٢﴾ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴿٣٣﴾  سورة المطففين  

كيف نفهم قوله تعالى " اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ " فهماً صحيحاً؟

  ولما وصلوا إلى هذه الحالة من العمى والغطرسة في وجه الحق , عاملهم الله تعالى معاملة المثل , فالله تعالى يرد عليهم إستهزائهم بعباده المؤمنين فيرتد عليهم إستهزائهم , فاصبحوا يستهزئون بأنفسهم , ويسخرون منها  , وإمدادهم في طغيانهم بالمال والبنين وإقبال الدنيا عليهم من كل باب يطرقوه , وتغلق عنهم أبواب المكروه والبلاء , فيزدادون غيا وعمى ومرضاً فهم يعمهون . 

أي أن فعل الله تعالى معهم وبهم في حقيقته المطلقة في عالم الأمر عدلاً وقسطاً بموجب أسمائه وصفاته المقدسة وصورة  الفعل في العالم السفلى , عالم الدنيا والمادة والصور , تبدو سخرية وإستهزاءً , فالسخرية والإستهزاء والمخادعة , هذه الأفعال التي وردت في هذه الآيات الكريمة , ليست من أفعال الله تعالى المقدسة مباشرة , بحيث تنسب إليه في جملة صفات الأفعال ! 

تعالى الله وجل عن المناظرة والمشابهة والمثلية والندية , كما تعالى عن كل صفات النقص وكل أفعالها الناتجة منها , لذلك كل هذه الأفعال في القرآن الكريم , هي صورتها كما تبدو في عالم المادة المحسوس والمتناقض  عالم الدنيا والأسباب . 

 لكن هذه الأفعال القدسية في أصلها وحقيقتها هي من آثار أسماء رب العالمين تبارك وتعالى الحسنى وصفاته العليا التي تحيط بكل الوجود , وآثارها تعمل في كل آنٍ بلا إنقطاع .  فهي في أصلها وحقيقتها من آثار صفات الحكمة والعدل والإنتقام والقيومية ... وهذه الآثار متحتمة قاهرة لا محيص عنها ولا مفر منها ما دامت أسبابها قائمةً في هذا العالم من أفعال المكلفين , فإن الله تعالى لا يغيروا ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم , وهكذا نفهم مثل هذه الأفعال , فبصورتها المادية في عالم الأسباب -مخادعة - سخرية - إستهزاء - وحقيقتها في أصلها ونسبتها لصفات الله المقدسة العلوية -حكمة - عدل - قيومية - إنتقام- فلا ينسب لله تعالى صور مفعولاته التي تقع في عالم الدنيا في صور المماثلة والمكافأة , ولكن ينسب إليه ما هو أهل له تبارك وتعالى من صفات الجلال والإكرام التي ليس فيها نقص ولا ينتج عنها نقص و عجز , وإلا لو سخر أعداء الله تعالى من أوليائه وخادعوهم ومكروا بهم , ثم لم يكافئهم رب العالمين تبارك وتعالى بمثل ذلك , قوةً وإقتداراَ وقهراً وإنتقاماً , لصار عجزاً , في حق المولى جل في علاه وتبارك , والله تعالى منزه عن كل نقص , في أفعاله وفى مفعولاته , وفى ذاته وأسمائه وصفاته, 

لذلك ورودها في القرآن الكريم بصورتها في عالم المادة والأسباب , تخويفاً وردعاً لهؤلاء المعنيون بالخطاب مباشرةً ومن هو على شاكلتهم في كل زمان ومكان  , وتقريراً وافياً وبيان للمؤمنين أن الله تعالى يرد عنهم كيد أعدائه وأعدائهم ويمكر بهم , ويرد عليهم بمثل فعلهم في الصورة , إلا أنه في كيفيته وحجمه وحقيقته شيء مهول يفوق ويتخطى كل حد يتخيلونه . 


هل للإنسان إرادة في الكفر والإيمان أم هو مجبور على ذلك؟

 



إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿٦

الآية جاءت بصيغة التأبيد حيث لا تنفعهم النذر فجعلت بعض المفسرين يقولون ويجنحون إلى عقيدة الجبرية  وأن الذين كتب الله تعالى عليهم الكفر وقدر ذلك عليهم بلا عمل لا يؤمنون , ولا شك ان الله تعالى علم كل شيء أزلا وكتب كل ذلك عنده وقدر كل شيء تقديرا  ولكن ذلك لا يتعارض مع حرية الإرادة الإنسانية التي منحها الله تعالى له ليختبره ويبتليه  إما شاكرا وإما كافورا ولكن الحق أن الذين علم الله تعالى بعلمه الأزلي أنهم سيكفرون بإختيارهم ومحض إراداتهم رغم النذر والبينات فهؤلاء لن يأمنوا أبداً وهذا الختم على قلوبهم وأسماعهم هو نتيجة إصرارهم على الكفر وجزاء في نفس الوقت  حتى ماتوا عليه  , ولكننا نرى في نفس الوقت أن هذه الآية بدأت بهذه الصياغة لتؤكد أن الذين تتحدث عنهم على النقيض تماما مع السابق ذكرهم في الآيات الخمس الأولى من السورة الكريمة فهي تؤكد على الإنفصال التام والمباينة عن المؤمنين المتقين . كما أننا نلمح في صيغة التأبيد في الآية الكريمة أن هؤلاء الصنف من الناس نفذ ما لديهم من رصيد الفطرة الذى فطرهم الله تعالى عليه وبالتالي نفذت منهم النفخة الروحانية التي وهبها الله تعالى إياهم  فأصبحوا أموات غير أحياء كما وصفهم الله تعالى في آيات آخري , فهم قبور تمشى بأصحابها , فهؤلاء صم بكم عمى لا يفقهون شيئا ولا يرجعون عن غيهم وضلالهم مهما كانت الآيات والنذر التي تأتيهم , والله تعالى أعلم. 

                

خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَٰرِهِمْ غِشَٰوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴿٧

جاءت كلمة أبصارهم وغشاوة  في الرسم القرآني بغير الف مرسومة  إشارة إلى أن الغشاوة على أبصارهم النفسية المعنوية وليست المادية الحسية ,فهي غشاوة غير حسية وغير مرئية لأنها على بصائرهم النفسية وليست الحسية  , فهي موجودة حقيقة من منظور عالم الحقائق الذى تنتمى إليه النفس ولا يمكننا أن نرها في عالم الصور والأسماء  , لذلك فهم ينظرون بأعينهم الأشياء ولكن لا يبصرون ولا يدركون حقائقها ومعناها الذى لا تدركه إلا النفس المجردة عندما تطل على عالم الحقائق المجردة .

                                     

      وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْءَاخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴿٨

نرى هذه الآيات الكريمة التي تتحدث عن الصنف الغالب والأكثر من الناس نرها بدأت بحرف عطف , فهذا الصنف من الناس معطوفون على الصنف السابق ذكرهم (الكافرين) صراحة بلا إدعاء للإيمان والإسلام  , في حين نرى أن الآيتين السادسة والسابعة التي تتكلم عن الكافرين صراحة الأموات جاءت بصيغة إنشائية جديدة لا صلة لها بما قبلها من الآيات التي تحمل صفات المتقين مما يدل على البراءة التامة الواقعة من المؤمنين لهؤلاء الكافرين  نرى أن الآيات الكريمة التي تتحدث وتصف حال أكثر الناس بدأت بهذه البداية العاطفة على ما قبلها إشارة إلى أنهم وإن كانوا يدعون  الإيمان - من أهل الكتاب السابقين – والمنتسبين إلى الإسلام - من هذه الأمة المحمدية- بظاهرهم إلا أنهم لا يبعدون عن الكافرين السابق ذكرهم كثيراّ فهم قريبون منهم  , مشابهون لهم في القلوب وحقيقة وصفهم , رغم كل محاولات الخداع والتلون والإدعاء فإن الله تعالى يفضحهم ويبين حالهم للمؤمنين ويخزيهم ويكبتهم بوصف الكافرين في قوله تعالى (وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَٰفِرِينَ).

ونظراّ لأنهم هم الأكثرون  في الناس وهم الغالبون على أمر الناس بدلالة الواقع ونظراّ لخطر شأنهم وفساد دينهم وعقيدتهم  فإن الله تعالى يستطرد ويفصّل في وصف حالهم للمؤمنين عبر ثلاثة عشرة آية   تتضمن مائة وواحد وسبعون كلمة 171 يحملها سبع مائة وستة وثلاثون حرفا 736 في كتاب الله تعالى حتى لا يغتروا بإدعائهم وشعارتهم المعلنة. 

 

يُخَٰدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿٩﴾

فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ 10

وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ١١ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ ١٢ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ ١٣

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ﴿١٤﴾


في الآية الكريمة  إشارة إلى أنهم شياطين منهم هم  من أنفسهم من البشر وليسو من الجن  فهم شياطين انسيين مردوا في النفاق والكفر    كما هو مبين في قوله تعالى (   وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ),  وكلمة( قالوا) في القرآن تحمل من الدلالات ما هو أكثر من مجرد القول باللسان , كالأمر والنهى والقضاء والإعتقاد وظاهر الحال والعمل  ويتحدد معناها ودلالتها من كل ذلك حسب موضعها في الآيات , والمرجع في فهم المعنى والدلالة هو قاموس القرآن نفسه والنسق الذى يحكم ويربط كل كلماته وآياته , والله تعالى أعلم.  


في رحاب سورة البقرة الكريمة




أَخْرَجَ أَحْمَدُ والبخاري فِي تَارِيخِهُ وَمُسْلِمَ وَالتِّرْمِذِيّ وَمُحَمَّدَ بُنِّ نَصْرِ عَنْ نُوَاسِ بُنِّ سَمْعَانِ قَالَ سَمِعَتْ رَسُولُ اللهِ ' صَلَّى اللَّهُ ' عَلَيه وَسَلْمَ ‏ يَقُولُ : يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ وَأَهَلَهُ الَّذِينَ كَانُوا يُعْمِلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيا تَقَدُّمَهُمْ سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عُمْرَانَ ,  وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَمُسْلِمَ وَأَبُو نَعِيمَ فِي الدَّلائِلِ عَنْ أَنَسَّ بُنُّ مَالِكَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ إذاً قَرَأَ الْبَقَرَةُ وَآلِ عُمْرَانَ جِدِّ فِينَا يَعْنِي عَظْمُ ,  وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيّ وَحَسَنَهُ وَالنَّسَائِيّ وَاِبْنَ ماجة وَمُحَمَّدَ بُنُّ نَصْرِ الْمَوْزِيِ فِي كُتَّابِ الصَّلاَةِ وَاِبْنَ حبَان وَالْحاكِمَ وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ ‏ الْإِيمَان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بَعْثِ رَسُولُ اللهُ ' صَلَّى اللَّهُ ' عَلَيه وَسَلْمَ بَعَثَا وَهُمْ ذَوُو عَدَدِ فَاِسْتَقْرَأَهُمْ فَاِسْتَقْرَأَ كُلَّ رَجُلُ مِنْهُمْ يَعْنِي مَا مَعَه مِنْ ‏ الْقُرْآن فَآتَى عَلَى رَجُلُ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدَثِهُمْ سَنَّا فَقَالَ : مَا مَعَكِ يَا فُلَانٌ قَالَ : مَعَي كَذَا وَكَذَا وَسَوْرَةَ الْبَقَرَةُ قَالَ : أَمَعَكِ سُورَةَ الْبَقَرَةُ قَالَ : نِعْمَ قَالَ : اِذْهَبْ فَأَنْتِ أَمِيرَهُمْ فَقَالَ رَجُلُ مِنْ أَشرافِهُمْ وَاللهَ مَا مَنَعَنِي أَنْ أَتَعْلَمَ سُورَةَ الْبَقَرَةُ إلّا خَشْيَةَ أَنْ لَا أَقَوْمَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللهُ ' صَلَّى اللَّهُ 'عَلَيه وَسَلْمَ : تَعْلَمُوا الْقُرْآن واقرؤه فَإِنَّ مِثْلُ الْقُرْآن لَمِنْ تَعَلُّمَهُ فَقَرَأَهُ وَقَامَ بِهِ كَمِثْلُ جِرَابَ مَحَشُّو مَسَّكَا يفوح ريحَهُ فِي كُلَّ مَكَانَ وَمِثْلُ مِنْ ‏ تَعَلُّمَهُ فَيُرْقِدُ وَهُوَ فِي جَوْفِهُ مِثْلُ جِرَابَ أوكى عَلَى مُسَكِ , وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيّ فِي سَنَنِهُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ : قَلَتْ لِاِبْنِ عَبَّاسِ : إِنَّي سَرِيعَ الْقِرَاءةِ ‏ فَقَالَ : لَأَنْ أَقْرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةُ فَأُرَتِّلُهَا أَحُبَّ إِلَيِ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآن كُلَّه , وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي رُوَاةِ مَالِكَ وَالْبَيْهَقِيّ فِي شُعَبِ الإِيمان عَنْ اِبْنِ ‏ عُمَرِ قَالَ : تَعَلُّمُ عُمَرِ الْبَقَرَةُ فِي اثْنَتَيْ عِشْرَةَ سَنَةِ فَلَمَّا خَتْمَهَا نَحْرَ جَزُورَا , وَذكرَ مَالِكَ فِي الْمُوَطَّأ : أَنَّه بَلَّغَهُ أَنْ عَبْدِ اللهُ بُنُّ عُمَرِ مُكْثِ عَلَى ‏ سُورَةَ الْبَقَرَةُ ثَمانِي سِنِين يَتَعَلَّمُهَا وَأَخْرَجَ اِبْنُ سَعْدِ فِي طَبَقَاتِهُ عَنْ مَيْمُونِ أَنْ اِبْنُ عُمَرِ تَعَلُّمُ سورَةٍ الْبَقَرَةُ فِي أَرُبُعِ .


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ اِلْمِ ﴿ ١ ﴾ ذ ٰ لَكَ الْكِتَب لَا رَيْبَ ۛ فِيه ۛ هُدى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿ ٢ ﴾

 أَخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرِ عَنْ اِبْنُ عَبَّاسِ فِي قَوْلِهُ { هُدى لِلْمُتقين } قَالَ : لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَيُعْمِلُونَ بطاعتي , وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدَ بُنُّ حَمِيدِ ‏ وَالْبُخَارِيَّ فِي تَارِيخِهُ وَالتِّرْمِذِيّ وَحَسَنَهُ وَاِبْنَ ماجة وَاِبْنَ أَبِي حَاتِم وَالْحاكِمَ وَصَححهُ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَطِيَّةِ السَّعْدِيّ وَكَانَ مِنْ  الصّحابَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهُ ' صَلَّى اللَّهُ ' عَلَيه وَسَلْمَ لَا يُبْلِغُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أَنْ يُكَوِّنَ مِنْ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْس بِهِ حَذَّرَا لَمَّا بِهِ بَأْس ,وَأَخْرَجَ اِبْنُ أَبِي الدُّنْيا عَنْ شبيب بُنُّ شَبَّةٍ قَالَ : تَكَلُّمُ رَجُلُ مِنْ الْحكماءِ عِنْدَ عَبْدِ الْمِلْكِ بُنُّ مروَانِ فَوَصْفَ المتقي فَقَالَ : رَجُلُ آثَرَ اللهُ عَلَى  خلقَهُ وَآثَرَ الْآخِرَة عَلَى الدُّنْيا وَلَمْ تَكْرُبُهُ الْمَطَالِبَ وَلَمْ تَمْنَعُهُ الْمَطَامِعَ نَظَرَ بِبَصَرِ قُلَّبِهُ إِلَى مَعَالِي إِرَادَته فَسَمَّا لَهَا ملتمساً لَهَا فَزُهْدَهُ مَخْزُونَ يَبِيتُ  إذاً نَامَ النَّاسُ ذَا شُجُونَ وَيُصْبِحُ مَغْمُومَا فِي الدُّنْيا مَسْجُونَ قَدْ اِنْقَطَعَتْ مِنْ هِمَّتِهُ الرَّاحَةَ دُونَ مُنًيَتِهُ فشفاؤه الْقُرْآن ودواؤه الْكَلِمَةَ مِنْ الْحكمةِ وَالْمَوْعِظَةَ الْحَسَنَةَ لَا يَرَى مِنْهَا الدُّنْيا عَوَّضَا وَلَا يَسْتَرِيحُ إِلَى لَذَّةِ سواهَا , فَقَالَ عَبْدِ الْمِلْكِ : أَشُهَّدُ أَنْ هَذَا أُرْجِئَ بَالَا مَنَّا وَأَنْعَمَ عَيْشًا ,‏ وَأَخْرَجَ اِبْنُ أَبِي شيبَة وَأَبُو نعيم فِي الْحِلْية عَن مَيْمُون بن مهْرَان قَالَ: لَا يكون الرجل من الْمُتَّقِينَ حَتَّى يُحَاسب نَفسه أَشد من محاسبة شَرِيكه حَتَّى تعلم من أَيْن مطعمه وَمن أَيْن ملبسه وَمن أَيْن مشربه أَمن حل ذَلِك أَو من حرَام   

الحروف المقطعة في أوائل السور تلك الحروف النورانية مجموعة في قولهم " نص حكيم له سر قاطع " وهى من أسرار الكتاب المقدس , وكم له وفيه من الأسرار ما لم يخطر على بال أحد حتى وقتنا هذا بعد هذه القرون المديدة من نزول ذلك الكتاب العظيم , وما فُتح لنا من الفهم في القرآن ما يزيد عن نقطة من محيط هادر وقطرة من صيب غامر , ولا غرو فهو كلام الله العزيز الحكيم الذى لا نحيط به علماً ولا ندرك كنه ذاته سبحانه وكنه صفاته وأسمائه , فهو القائل ( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴿١٠٩ الكهف  (  وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُر مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ ٢٧) لقمان  وأرى أن هذه الفواتح النورانية لها علاقة وثيقة بالقرآن نفسه , ثم بالموضوع المحوري للسورة التي بدأة فيها , وسواء علمنا شيء من هذا السر أو لم نعلم  ينبغي ألا نتكلم إلا بعلم وحلم في كتاب الله تعالى , وينبغي أن نعلم أن طهارة الباطن وصلاح النية وإستقامة الطريقة وهيئة الجوارح شرط أساسي في فهم القرآن والغوص في أعماق المعاني والفتوحات القدسية , قال تعالى : ( لا يمسه إلا المطهرون ) , فلا مسيس للمعاني والفهم عن الله تعالى إلا للمطهرون , نسأله تعالى من فضله العظيم قطرة من فيض جوده  يطهر بها قلوبنا ويمسح بها أوزارنا فنكون محلاً قابلاً للفهم عن الله تعالى  , ورد عن عثمان بن عفان رض الله عنه قال : لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله تعالى . 

وأقول لو طهرت قلوبنا ثم تعرضت لكتاب الله تعالى لفاضت أروحنا وفارقت أجسادنا

 شوقاً للقاء الله تعالى  وما أطقنا العيش في عالم المتناقضات والشرور والآثام   (لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٢١﴾ هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ﴿٢٢﴾ هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ  الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿٢٣﴾ هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿٢٤﴾,    الحشر     

ولكن الله تعالى بحكمته وعظيم رحمته يفتح على عباده المؤمنين بما تحتمله قلوبهم الضعيفة , وإدراكهم المحدود , وللأنبياء والرسل الكرام من ذلك الحظ الوافر , لما لهم من تهيئة الله تعالى لهم وتثبيتاً لقلوبهم إصطفاءً وتخصيصاً لرسله وأنبيائه الذين يبلغون رسالات الله تعالى . 

                  

                                   ذَٰلِكَ الْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾

( ذَٰلِكَ) غلب إستخدامها عند العرب للبعيد , ولكنها تأتى في كتاب الله هنا للإشارة للقريب والقريب جداً , قرب لا نستطيع إدراكه والتعبير عنه ,  إن القرآن يلامس أروحنا , إنه يطمئن قلوبنا  , ويهدأ من روعنا , ويبدل أحزننا فرحاً وسروراً , وشفاءً لصدورنا ,ونوراً كاشفاً في ظلمات الشبه والضلال المحيطة بنا , تفيض عند سماعه دموع المحبين , وترتجف أوصالهم , وتقشعر منه جلودهم , كلما تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وإخباتاً وإنابةً وتوكلاً على مليكهم وولي أمرهم , الذى أنزل هذا القرآن روحاً من أمره وفيضاً من إسمائه وصفاته ,      ( ذَٰلِكَ)   لذلك فهي إشارة إلى عمق هذا الكتاب وسعة آفاقه وبعد آماده عبر الزمان والمكان , وعظمة شأنه وعلو قدره ومكانته , وشرف موضوعه ومحتواه , وقدسية أحكامه وأمره ونهياه , علوم باهرة , وحكمة بالغة , وهيمنة قاهرة على ما سواه , وحجة ظاهرة على العالمين  , يحكمُ ولا يُحكمُ عليه , يعلو ولا يُعلى عليه ,  وهذه المعاني نراها في إشارة رسم كلمة الكتاب (الْكِتَٰبُ) , أنه كتاب معجز وليس كأي كتاب , لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .  ومما ينسب للوليد بن المغيرة في السيرة  أنه قال في القرآن : إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته " وأقول : ‘إن هذه الوصف لا يمكن أن يصدر من كافر عنيد مثل الوليد ثم لا يؤمن ويخضع لهذه القرآن , فهذا قول ووصف من تذوق بعض آيات القرآن , وفهم لمحة من معانيه , وهناك رواية آخري في السيرة عن الوليد أنه إستمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ., ثم لم يفهم منه شيئاً "فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم  , فقال : أنت خير أم عبد المطلب ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى . أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فرغت ؟ ) . قال : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون إلى أن بلغ : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود _فقال عتبة : حسبك ما عندك غير هذا ؟ قال : ( لا ) . فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال : ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته .قالوا : فهل أجابك ؟ فقال : نعم . ثم قال : لا والذي نصبها بينة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال ؟ قال : لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة ! 

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ ﴿٣﴾

نرى الآية الكريمة جاءت بالفعل المضارع في وصف إيمان المتقين ,وفى هذا إشارة إلى أن الإيمان يحتاج إلى تجديد واستمراره وعوامل للثبات , لأنه يمكن أن يزول ويحول , أو ينقص ويضعف في قلوب المؤمنين , إن عواصف الشبهات وأمواج الشهوات وكثرت أبواب الفساد , وسهولة مراتع الفاحشة , وعموم البلاء في الأموال والبنين والزوجات ,كل ذلك ينال من صفاء النفس ويكدرها , ويرن على القلوب فتعمى عن  طريق الرشاد , فلابد وحتماً للمؤمنين من دوام التوبة والإنابة , ومعاجلة الذنوب بها قبل أن تقع آثارها , وتحل بدارهم أوزارها , فهم في شغل دائم بربهم ومعبودهم الحق ضراعة ودعاءً وتوسلاً أن يحفظ عليهم إيمانهم ويحول بينهم وبين الكفر والشرك , غلب خوفهم أمنهم , وحذرهم على غفلتهم , لا ينفك عنهم حزن الثكالى , ولا يفرحون إلا بالحق الذى آتاهم من ربهم , ولا يبالون بحطام الدنيا الفانية , ولا تطيب قلوبهم إلا بذكر مليكهم ومعبودهم الحق , فهم في شأن والناس في شؤنٍ شتى , يقيمون صلاتهم على الهيئة المخصوصة التي أمر الله تعالى بها , ولا يلقون بها من على أكتافهم إلقاء الحمل الثقيل , إنهم يقبلون عليها ويستقيمون لها حباً وشوقاً لربهم ومعبودهم الحق , فيها رواحهم ومهوى أفئدتهم , فيها السكينة والطمأنينة لأرواحهم , وجاءت كلمة الصلاة  برسم قرآني فريد (الصَّلَوٰةَ) إشارةً إلى أن هذه الصلاة وإن كانت في أصلها الدعاء إلا أنها  أفعال وهيئة مخصوصة , ليست مما يعهدون  , كما إنها إشارة إلى عظيم قدرها وعلو شأنها وأهميتها في حياة المؤمنين , وجليل آثارها عليهم   فهم لها متشوقون , وعليها يحافظون , لا يشغلهم عنها مالٌ ولا بنون , ولا تجارة يخافون كسادها , ولا لعب ولهو ومجون . فكما أن الصلاة زكاة الروح , فقرين الصلاة زكاة النفس من الشح وإمساك المال في مواضع البذل والنفقة في وجوه البر ابتغاء وجه الله تعالى ,مالك النفس والروح والمال وكل ما يملكون .  فالصلاة قرينة الإيمان ووجهه الظاهر وعلامة عليه ودليل , إذا لم يقترف العبد شركاً , والنفقة قرينة الصلاة , في منظومة إيمانية متكاملة تزكى النفوس وتسمو بالأرواح وتهذب الحواس وتحول بين العبد وبين الرذائل والدنايا  والسقوط في مراتع الرجس والغواية , قال تعالى (... مَا يُرِيدُ اللَّـهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٦﴾) المائدة                               

الْحَرْث بن قيس أَنه قَالَ لِابْنِ مَسْعُود: عِنْد الله يحْتَسب مَا سبقتمونا بِهِ يَا أَصْحَاب مُحَمَّد من رُؤْيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ ابْن مَسْعُود: عِنْد الله يحْتَسب إيمَانكُمْ بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم تروه إِن أَمر مُحَمَّد كَانَ بَيْننَا لمن رَآهُ وَالَّذِي لَا إِلَه غَيرهمَا آمن أحد أفضل من إِيمَان بِغَيْب  ,وَأخرج أَحْمد وَابْن حبَان عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله طُوبَى لمن رآك وآمن بك   , قَالَ: طُوبَى لمن رَآنِي وآمن بِي وطوبى ثمَّ طُوبَى ثمَّ طُوبَى لمن آمن بِي وَلم يرني  ,  وَأخرج ابْن جرير عن ابْن عَبَّاس قَالَ: إِقَامَة الصَّلَاة إتْمَام الرُّكُوع وَالسُّجُود والتلاوة والخشوع والإِقبال عَلَيْهَا فِيهَا11


وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْءَاخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٤﴾

  وهنا نجد الإيمان بما نزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وهو الحقُ من ربهم بصيغة المضارع المستمر , مما يعنى إستمساكهم بالقرآن والمداومة على ذلك , والعمل به منهجاً قيماً شاملاً لحياتهم بكل تفاصيلها ظاهرها وباطنها فهم يحكّمونه على سرهم وعلانيتهم , ويتبعونه وهو إمامهم ودليلهم وهاديهم والسراج المنير والصراط المستقيم , فهم يتبعونه ليس كالعميان في قطيع بلا وعى , وإنما يتبعونه لأنهم علموا وأيقنوا أنه الحقُ من ربهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ  كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴿٢﴾ ذَٰلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ  كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴿٣﴾ سورة محمدٌ صلى الله عليه وسلم  والإيمان بالكتب السابقة إجمالاً وتفصيلاً لما ورد ذكره في القرآن الكريم , والإيمان بالكتب السابقة يعنى الإيمان بأن الله تعالى لم يترك الأمم الماضية بغير رسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب والصحف لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ,فالرسالات والكتب المقدسة لم تنقطع  في زمن من الأزمنة الماضية , وهذا جانب أصيل من عقيدة المؤمنين ,أن الله تعالى أقام الحجة التامة البالغة على الناس ولا حجة للناس على الله تعالى  .   وبنفس الصيغة يأتي يقينهم بالأخرة , هذه الصياغة التي تشير إلى الإيمان أي الإعتقاد وإلى العمل بذلك الإعتقاد  فعقيدة الإيمان باليوم الآخر من أصول الديانة , والتعبير عن هذا الأصل العظيم بهذه الصيغة (يوقنون) يعنى أولاً : لم تأت بكلمة يؤمنون كما وردت في أول الآية والتي قبلها  , وإنما جاءت يوقنون لأنهم لما آمنوا بالغيب وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقهم الله تعالى وآمنوا بالقرآن وعملوا بما فيه والتزموا منهجه وآمنوا بأن الله تعالى أقام الحجج البالغة على العالمين من قبل , أدى بهم ذلك إلى مرحلة ودرجة اليقين بالأخرة ِ , فهم على يقين منها وبها ,       

ثانياَ : لما جاءت بصيغة المضارع دل ذلك على عمل يعملونه ويبذلون فيه جهدهم , وهو العمل للآخرة والإعداد لها وسعوا لها وإليها سعياً حثيثاً   كما ورد هذه المعنى في آية سورة الإسراء : (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴿١٩﴾ كما في هذه الآية إشارة إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت الدليل على خلافه  والمعيار في ذلك كتاب الله تعالى  .

أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (5)

قلت : في هذه الآيات السابقة بيان لصفات المتقين المهتدين الذين افلحوا ونجوا من العذاب الأليم  ,نجد أن صفاتهم كلها صفات فعلية جاءت بصغية المضارع  (  يؤمنون , يقيمون , ينفقون , يوقنون ), مما يعنى استمرارهم وثباتهم على هذه الأفعال بصدق وإخلاص وعلم صحيح تعلموه ليعملوا بموجبه ومقتضاه  , وفى هذا أبلغ رد على المارقة من الدين الذين يدعون أن الإيمان مجرد تصديق القلب أو النطق باللسان ,  والآية التالية بعد تؤكد ذلك أن من لم يتصف ويقوم بهذه الصفة من الإيمان فهو معدوم الإيمان  وبالتالي كان من الكافرين والقرآن من أوله إلى آخره يؤكد هذا المعنى ويبطل ما سواه .                              


لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟

 لماذا أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول القرية سجداً ؟ وَإِذۡ قُلۡنَا ٱدۡخُلُواْ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةَ فَكُلُواْ مِنۡهَا حَيۡثُ شِئۡتُمۡ رَغَد...

مشاركات شائعة